عبد الاله بلقزيز
للإعلام رسالة أخلاقية، في المقام الأول، قبل أية رسالة إخبارية أو “تنويرية” أو تكوينية . من يخطئ وعي هذه المقدمة الابتدائية، يخطئ النظر إلى الدور الاجتماعي لهذا القطاع، الحساس والخطر، من قطاعات التنمية الاجتماعية، ويُسْنِد إليه وظائف ليست من طبيعة ما هو مطلوب منه، أو – على الأقل – يُسلّم بها بما هي الوظائف المبتغاة أو المنتظرة منه!
ليس منا من يجادل في أن للإعلام وظائف حيوية ثلاثاً . أولها تمكين المواطنين من المعلومات والأخبار عن الوقائع من حيث إن ذلك من الحقوق الثابتة للمواطنة التي تكفلها الدولة الحديثة، والتي لا سبيل إلى التمتع بحقوق المواطنة من دون حيازتها، عملاً بالمبدأ الذي يقرر أن المواطنة والحرية متلازمتان، وأن حرية المواطن في اللوذ برأي، أو اتخاذ قرار، تتوقف على تمتّعه بالمعلومات الكافية التي توفر له ذلك الإمكان . وهذا كان – ولايزال حتى اليوم – في أساس العقيدة التي مافتئت تعبر عن نفسها، منذ زمن، من طريق القول إن جوهر الصحافة والإعلام هو حرية تدفق المعلومات وسيولتها من دون حُجُبٍ أو قيود .
وثانيها أن فوائد المادة الإخبارية المنقولة إلى المواطن، عبر الصحيفة أو الإذاعة أو التلفزيون، لا تستوفي شروط النجاعة من دون أن يقترن بها جَهْدٌ للإضاءة أو “التنوير”، ذلك أن الإفادة الإعلامية – أو الخبر – لا تكفي وحدها كي تمنح المواطن فرصة المعرفة، وإنما تحتاج إلى ما يجعلها قابلة لأن تدخل في نسيج فكرة أو رؤية لديه . وهذا يمتنع من دون أن يتلازم الخبر مع التحليل على النحو الذي تخرج به المعلومات والأخبار والإفادات من الإبهام إلى الوضوح .
وثالثها، أن الإعلام يقوم من المجتمع مقام المدرسة منه: توفير المعرفة وبناء الوعي الجمعيّ، بما في ذلك بناء ما نسميه “الرأي العام” في الدولة الحديثة، من حيث إنه شرط لا يستقيم نظام ديمقراطي ومدني من دونه، إذ الرأي العام مما تتحقق به المواطنة وتكون، لأن من مقتضياتها المشاركة السياسية، وهذه متوقفة على تكوين ما اصطلح على تسميته ب “الرأي العام” كمساحة اجتماعية حيّة، متفاعلة مع “الشأن العام”، ومتشكّلة تحت تأثير الثقافة السياسية التي تمر عبر قنوات عدة منها الصحافة والإعلام .
قد تتعرض هذه الوظائف للتحريف والتزوير، عند التطبيق – وهي حصل كثيراً أن تعرضت لذلك – بمعنى أن يسلك الإعلام نهجاً يُجافي منطق رسالته الاجتماعية، ويتحول إلى أداة تؤدي أدواراً سلبية أو ذات أثر سيّئ . وقد يسعنا هنا، أن نرصد وجوهاً ثلاثة من ذلك التزوير الذي لحق ويلحق وظائف الإعلام، مع ما يترتب عنه من نتائج بالغة السوء .
يتمثل الوجه الأول في ممارسة فعل النيل من مبدأ حرية تدفق المعلومات، ومنها حرية الخبر، وذلك ما يتم – غالباً – بأشكال وصور مختلفة يمكننا أن نحصي منها أربعة أشكال: حجب الخبر، أو اجتزاؤه، أو انتقاء خبر من دون آخر، أو تقديمه على نحو أيديولوجي ومغرض . تُغير هذه الأشكال جميعها – وعلى تفاوت – وظيفة الإعلام من أداة لتقديم خدمة اجتماعية عامة (اسمها المعلومات) إلى أداة للتعتيم والتجهيل، وحرمان المواطنين مما يكونون به مواطنين! لقد كان الإعلام الرسميّ، المملوك للدول، مطبوعاً بهذه السمات – ولايزال – غير أن الإعلام “المستقل”، المملوك للخواص، سرعان ما سيصبح نظيراً له ورديفاً في هذا المسلك، ليفضح بذلك دعوى “استقلاليته” التي أرادها رأسمالاً لبناء صدقيّته!
ويتمثل الوجه الثاني في السيطرة على المعلومات/الأخبار لا من طريق حجبها، أو انتقائها، أو اجتزائها، وإنما من طريق تقديمها على نحو موجّه ومعروف لخدمة رواية سياسية أو أيديولوجية بعينها . إن ما يرافق الخبر، عادة، من تعليق أو “تحليل” – وغالباً من قبل “خبراء” يُسْتَقْدَمون لهذه الغاية أو يقع الاتصال بهم – فعل إعلامي يزيغ عن الحياد والموضوعية، ويوغل في التغريض إما مواربة وإما على نحو سافر . وغالباً ما تنفضح لعبة الإعلام هذه من خلال نوع “الضيوف” المدعوين إلى إبداء الرأي – تعليقاً على الخبر – داخل استوديوهات القنوات أو عبر الهواء، حيث يُؤْتَى بمن يشايعون رواية القناة المستضيفة والدولة التي تنفق عليها . وإذا ما جرّب بعض الإعلام ستر العورة، والظهور بمظهر الحياد، فاستقدم رأياً مخالفاً، لا تكون الحصة الزمنية الممنوحة لهذا الرأي متوازنة: إما بسبب أن أكثر ضيوف البرنامج من رأي واحد موالٍ للمضيف، بحيث لا يُمْنَحُ الرأيُ المخالف إلا بضع دقائق لا تكفي للبسملة والحمدلة، وأمّا بسبب لعبة التوزيع غير العادل لحق الكلام التي يتقنها إعلاميو القنوات والمحطات الأيديولوجية .
أما الوجه الثالث فيتمثل في تحويل هدف بناء الرأي العام، ومقتضاه الموضوعية والحياد في نقل الخبر وعرضه، والتوازن في تحليله وإضاءته، إلى تنميط الوعي وقولبة الرأي أو أقنمته، والحال إن هذا ليس من بناء الرأي في شيء، وإنما هو إلى توجيهه والتأثير فيه – تأثيراً أيديولوجياً – أقرب منه إلى أي هدف آخر . وظَننا أن هذا التزوير الفاضح لوظيفة الإعلام إنما مبناه على أن هذه الوسائل الإعلامية، الخائضة فيه، إنما تتغيّا إسقاط الرهان على المواطنة في المجتمعات العربية المعاصرة .
هكذا نشهد كيف يُعْتَدى على المضمون الأخلاقي لرسالة الإعلام – في عصر الفضائيات – على نحو من الاحتيال لا ينطلي على عاقل . أما اللوذ بالتقنيات الحديثة، وفبركة الأخبار والصور، وتصنيع الأكاذيب، وتشغيل الفهلوة في الإخبار، وتوسل قوة عمل ثقافية رخيصة (من “خبراء” و”مثقفين”) للعمل شهود زور . .، فأفعال لا تنطلي على لبيب . . إذ إن حبل الكذب قصير .