حينما يسطو الإنتهازيون على الثورة
عزالدين بن حسين القوطالي
تونس
في الثورات يظل قابضا على السلطة من هو أكثر نذالة
الثائر الفرنسي جورج دانتون
وهو في طريقه الى المقصلة
قيل قديما إن الثورات بخطط لها العلماء وينفذها المغامرون ويستفيد منها الإنتهازيون ؛ ولا نعتقد إن مثل هذا القول يحتاج الى دليل تاريخي ذلك أن أغلب الثورات التي عرفها التاريخ أكدت مثل هذا القول بل وأكثر من ذلك جعلت منه بمثابة القاعدة والقانون لمسار الحركة الثورية الإنسانية عبر تاريخها الطويل .
ولقد جاءت الثورات العربية الأخيرة لتقدّم النموذج الحيّ لمثل ذلك المنطق اللامنطقي في تجسيد حركة الجدل الداخلي بين صنّاع الثورة ومفجّريها من جهة والمستفيدين منها أو الراكبين عليها من جهه ثانية .
إن الإنتهازيين والعملاء والوصوليين ومن لم نرى لهم أثرا أو بصمة أو إسهاما في ساحات الصراع المرير مع الطغاة والجلادين في لحظات المواجهة التي تفترض التضحية والعطاء والمخاطرة هم أنفسهم الذين سوف تغصّ بهم ميادين السمسرة والسطو على جهود وتضحيات الثائرين الحقيقيين على رموز الفساد والإستبداد وهم ذاتهم الذين سوف يصطفون تباعا ضمن طابور المستفيدين من المواقع التي خلّفها الطغاة وراءهم .
والفرق بين هؤلاء والثوار الحقيقيون هو فرق في التكتيك الحربي إذ إعتمد الإنتهازيون على تكتيك حرب المواقع بينما إختار الثوار تكتيك حرب الحركة ولكي نفصّل الصورة ونقرّبها أكثر للجمهور من الضروري أن نقول إن ما يسمى بتكتيك حرب الحركة هو ذلك العمل الجماهيري الضخم الهادف الى إستهداف الدولة مباشرة عبر إسقاطها وكلّ ما تحمله من مؤسسات وهياكل ورموز وعقائد وخيارات أي إسقاط النظام القائم برمته وإستبداله بنظام جديد يقوم على أنقاضه كما حصل أثناء الثورة الفرنسية 1789 والثورة البلشفية 1917 ؛ أما تكتيك حرب المواقع فيتلخّص في تقدم الثورة إلى مواقع في الدولة والمجتمع المدني و الإدارات والوزارات وما عداها مما يتصل مباشرة بحياة المواطن ويؤثر فيها بشكل نضمن فيه تحقيق الأرجحية الميدانية لميزان القوى لصالح الثورة وجماهيرها ومن ثمّة تقليم أظافر النظام وتجريده من أدوات السيطرة والتحكّم توصلا في النهاية الى إسقاطه والإنقلاب عليه .
والغريب في أمر ثوراتنا العربية أن الجماهير التي نادت بإسقاط الأنظمة الإستبدادية لم توفّق مبدئيا في إستثمار اللحظة الثورية لصالحها فلا هي نجحت في حرب الحركة ولا هي إستطاعت أن تدير حرب المواقع فكانت بالنتيجة الخاسر الأول في معركتي إسقاط النظام وإحتلال مراكز القرار فيه .
والأغرب من ذلك هو إستغلال حركة الجماهير لشرعنة المكاسب الميدانية التي حققها الإنتهازيون في حرب المواقع إذ توظّف وسائل الإعلام والدعاية التي لم تخرج يوما عن سيطرة أعداء الثورة لخدمة أهداف الإبقاء على النظام ومؤسساته وتلميع صورة المتصدّرين لمواقع أخذ القرار بداية من المصنع وصولا الى مؤسسات الحكم وتقديم البديل التسويقي الجديد للمرحلة المقبلة من خلال وجوه لم تشارك في صنع الثورة مطلقا ولم يكن لها أيّ إسهام يذكر في مختلف مراحل العمل الثوري . وهكذا تولد تراجيديا الثورات العربية ؛ فمن رحم العمل الثوري الحقيقي ومن عمق معاناة الجماهير وتضحياتهم تولد التراجيديا القائمة على ديمقراطية صندوق الإقتراع بحيث يقع حذف مرحلة كاملة من مراحل الفعل الثوري والتي تسبق عادة مرحلة الإنتقال الديمقراطي … إنها مرحلة المحاسبة أو العدالة الإنتقالية التي يقع من خلالها طرد بقايا الأنظمة السابقة وتطهير مؤسسات الدولة جميعا من أدوات القهر والفساد وتحييد أصحاب النفوذ المالي ومنعهم من إستعمال إمكاناتهم لصالح إستمرار النظام شكلا ومضمونا عبر وجوه جديدة من حيث الشكل وقديمة من حيث المضمون والبرامج والتوجهات .
إن الحاصل الطبيعي والمنطقي لإنتخابات تقفز على مرحلة العدالة الإنتقالية سوف يتحكّم فيه بالنهاية عنصري المال والإعلام وما هذين العنصرين إلاّ غنائم تكتيك حرب المواقع التي خاضها أعداء الثورة بنجاح بشكل وجدت فيه الجماهير نفسها ضمن إطار المربّع الأول وكأنها لم تتحرّك مطلقا أو أن تحرّكها قد كان يتراوح في المكان نفسه .
وهنا نستذكر قول أحد منظّري الثورة الفرنسية الذين أكلتهم الثورة ذاتها إنطلاقا من هذه المعادلة التراجيدية في صراع الثورة مع أعدائها إذ يقول روبيسبيير : إن الخونة موجودون هنا مختبؤون تحت مظهرهم الكاذب الزائف … إنهم سيتهمون من يوجه لهم الإتهامات وسيضاعفون خداعهم ليضربوا وجه الحقيقة … قال روبسبيير ذلك بعد أن كان شاهدا وشهيدا على سقوط رموز الثورة الفرنسية وقادتها ومفجّريها الواحد تلو الآخر بداية من هيبير وشومات مرورا بدانتون وديمولان وصولا الى مارا وسان غوست .
الحقيقة إذن مرّة ومرارتها تزيد من إنحسار خطّ الثورة حتى أننا أصبحنا لا نرى أثرا لأولائك الذين صنعوا أمجاد من حملتهم صناديق الإقتراع بعد الثورة فالثائرون الحقيقيون اختفو عن الانظار او ربما تمت ازاحتهم واخفاءهم بفعل فاعل وتغييبهم عمدا بإستعمال وسائل الإعلام القديمة المتجددة التي كان شعاراها ولازال : مات الملك عاش الملك .
إنه من المؤسف حقّا أن يقع تشويه الثورة في تونس مثلا أو إختصارها في تاريخ يمتد من 17 ديسمبر2010 الى 14/01/2011 وكأن من خاض غمار التصدّي للدكتاتور وأذنابه ومشروعه قبل ذلك التاريخ لم يكن قد أسهم في بناء المراحل الأولى لبداية نهاية النظام وهنا نتذكّر بفخر وإعتزاز وتقدير شهداء منطقة الحوض المنجمي في قفصة والرديف والمتلوي وأم العرايس والمضيلة ممن سقطوا على طريق الحرية والكرامة .. أولاءك الذين وضعوا رؤوسهم على أكفّهم وخرجوا بصدور عارية في 05/01/2008 متحدّين رصاص القهر والظلم والإستبداد طالبين الخلاص من نظام بن علي وعصابته الحاكمة في وقت لم يكن أحد من الثورجيون الجدد – ثوّار ما بعد الثورة – قد أدرك بعد أن النظام يحتضر وأنّ إنتفاضة أبناء الحوض المنجمي سوف تكون المسمار القبل الأخير في نعش ذلك النمر من الورق .
نأسف لأن أمثال هؤلاء الثوار قد أسهموا بدمائهم الطاهرة في وصول الإنتهازيين وسماسرة السياسة الى مواقع القرار لكي يتمّ في النهاية إستثناؤهم من قائمة شهداء الثورة في تونس عبر مرسوم صدر عن أحد رموز النظام السابق وهو المرسوم عدد 97 لسنة 2011 المؤرخ في 24/10/2011 والذي جاء فصله السادس معرّفا لشهداء الثورة ومصابيها قولا إنهم: الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم من أجل تحقيق الثورة ونجاحها وأستشهدوا أو أصيبوا بسقوط بدني من جراء ذلك بداية من 17/12/2010 الى غاية 19/02/2011
مأساة حقيقية تكشف عمق الصراع القائم في تونس بين خطّين متوازيين لا يلتقيان أبدا خطّ النضال والثوار وخطّ الإنتهازية والوصوليين … ولعلّ أهمّ تجليات المهزلة هو تكريم الجلادين والقتلة وإحياء ذكراهم كما فعل الثورجيون الجدد مع رموز الظلم والإستبداد في تاريخنا الوطني … فنجدهم يكرّمون الحبيب بورقيبة ويعددون مناقبه وفتوحاته في وقت يحرم فيه شهداء الحوض المنجمي من مجرّد التذكير بهم أو المطالبة بحقوقهم والقصاص من مغتصبيها …
أنظروا من تصدّر موقع القرار إبان الثورة وبعدها وستعلمون أن الثورة سرقت منذ أيامها الأولى حينما أصبح محمد الغنوشي قيّما على تحقيق أهداف الثورة وحينما أثمرت إعتصامات القصبة واحد وإثنين صعود نجم الباجي قايد السبسي وهو أحد رموز النظام البورقيبي الذين أشرفوا على وزارة الداخلية أيام القهر والظلم .
بل أكثر من هذا وذاك وأخطر من هذا وذاك لم تصل الثورة الى مواقع القرار الرئيسية في الإدارات الحيوية إذ بقي رموزها على حالهم يصطادون الولاءات ويتصيدون صراع القوى على الساحة ليحددوا مواقعهم مع الطرف الفائز وبذلك تحقّقت إستمرارية النظام السابق عبر حلقات الإدارات المركزية والجهوية التي لم يطرأ عليها تغيير جذري يذكر وكذلك الشأن بالنسبة لناشطي الأداة السياسية التي كان يحكم بها الدكتاتور إذ تمّت إعادة هيكلتها في شكل أحزاب سياسية جديدة شارك أغلبها في الإنتخابات الأخيرة وتمكن من الفوز ببعض المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي .
وإذا ما إنتقلنا الى مصر وليبيا فإننا سنجد نفس السيناريو يتكرر في صور متشابهة تجمع جلها على إستبعاد الثوّار الحقيقيون ليحلّ الإنتهازيون محلهم ويملؤوا الفراغات التي خلفها نظام الحكم
فحينما قرر شباب 6 أفريل وكلّنا خالد سعيد الخروج للشوارع من أجل كرامتهم وحريتهم المسلوبة من طرف نظام حسني مبارك وقبل ثلاثة أيام فقط من تاريخ بداية الحركة الإحتجاجية أصدرت جماعة الإخوان المسلمين بيانا تعلن فيه عدم مشاركتها في الإحتجاجات وعلى منوالهم نسج شيوخ التيار السلفي الذين أصدروا فتاوى في تحريم المظاهرات .
وبعد نجاح الحركة الإحتجاجية ووصولها الى مرحلة متقدّمة ترجّح فرضية سقوط حسني مبارك خرج أولائك الشيوخ أنفسهم الذين كانوا يفتون بتحريم المظاهرات في الأمس القريب ليتصدروا صفوف الراكبين على الثورة وكذلك فعل الإخوان المسلمين الذين لم يروا حرجا من الإدعاء بأنهم هم الذين صنعوا الثورة … وعلى دربهم سار أغلب تجار السياسة كالداعية الإسلامي عمرو خالد مرشّح الحزب الوطني الذي نزل الى ميدان التحرير ليقطف ثمار الثورة وعمرو موسى صنيعة مبارك الذي أراد أن يفتكّ نصيبة من الكعكة .
أما صنّاع الثورة الحقيقيين أمثال الشاب وائل غنيم فقد تمّ إستبعادهم تماما من المشهد إذ وقع منعه من مجرّد أخذ الكلمة بعد خطبة الجمعة التي أقامها القرضاوي في ميدان التحرير .
وفي ليبيا خرج شباب بنغازي متظاهرين يوم 17 فيفري 2011 ولم يجل بخاطر أحد من السياسيين والمثقفين ورجال الدين أن ينجح المتظاهرون في مهمتهم العسيرة والشاقة خصوصا أن النظام يمتلك أدوات القهر في حين لا يمتلك شباب بنغازي ألاّ سواعدهم .
وسرعان ما تطوّر الوضع الميداني لصالح شباب الثورة وأخذت الجموع تلتحق بالمتظاهرين في الساحات العامة وبدأت بوادر الإرتباك في صفوف النظام مما شجّع على مواصلة التحركات وتوسّعها لتشمل أغلب المدن الليبية .
وفي الأثناء كانت قناة الجزيرة الإخبارية تحت إدارة عرّاب الإخوان والفكر الإخواني وضّاح خنفر تبذل جهدها من أجل تلميع صورة الإخوان في ليبيا وتقديمهم للرأي العام الداخلي على أنهم الثوار الحقيقيون في حين تعمّدت إقفال أبوابها في وجه المعارضة الليبية الحقيقية أمثال الدكتور محمد المقريف وإبراهيم صهد ومنصف البوري وإبريك السويسي وغيرهم من الذين تصدّوا لنظام الحكم في وقت مبكّر .
وكلنا يعرف أن إخوان ليبيا كانوا قد إنخرطوا منذ زمن في مشروع مهادنة النظام وسياسة مدّ الجسور معه عبر قبولهم بخطّة الإندماج التي وضع أسسها سيف الإسلام القذافي عبر البرنامج المسمى : ليبيا الغد .
هؤلاء الذين كانوا يشكلون جزءا لا يتجزّء من برنامج ليبيا الغد هم أنفسهم من تصدّر الواجهة الإعلامية للثورة فتحوّل المدعو سليمان دوغة بقدرة قادر من مدافع عن النظام الى متحدّث بإسم الثورة وأضحى المدعو علي سعيد البرغثي أمين المجلس الإنتقالي في بنغازي وهو الذي كان من أشدّ المتحمسين لمشروع سيف الإسلام القذافي وأصبح خليفة خفتر قائدا عسكريا في المجلس العسكري للثوار بعد أن كان يقتل الأطفال ويغتصب الحرائر في حرب التشاد …
وهكذا تبرز ملامح الصورة النموذجية للركوب على الثورة وهي الصورة التي تتكرر في الأقطار العربية الثلاث بأشكال مختلفة ووجوه مختلفة ولكن تحت سقف حقيقة واحدة مفادها إن الإنتهازيون هم دائما من يستفيد …
وبعد … ألا يحقّ لنا أن نقول إن الإنتهازيين قد سرقوا ثورتنا ؟؟؟ ألا يحقّ للشهيد محمد البوعزيزي في تونس والشهيد مصطفى رجب محمود في مصر والشهيد خالد الناجي خنفر في ليبيا أن يعيدوا كتابة وصاياهم بدمائهم الطاهرة محذّرين الأجيال الثائرة في المستقبل القريب والبعيد من أمثال أولائك الإنتهازيين ؟؟؟
أليس من الضروري والحالة تلك أن نكرر ونعيد قول شهيد الثورة الفرنسية العظيم دانتون الذي صرخ بأعلى صوته وهو يساق الى مقصلة الإعدام : لا تنسوا أن ترفعوا رأسي ليتفرّج عليه الناس إنه مشهد يستحقّ الفرجة حقّا …