د / يوسف مكي
أخيراً استيقظت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما على مخاطر إرهاب «داعش» على الأمن والسلام. لقد تمكن التنظيم المتطرف من دحر معظم التنظيمات المسلحة السورية، واستولى على عدد من المحافظات بالكامل، كمحافظة دير الزور والرقة. ثم انتقل تنظيم «داعش» إلى العراق، أمام أنظار الأقمار الصناعية وطائرات التجسس الأميركية ذات التقنيات العالية، واستولى على الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى.
ورغم صرخات الاستغاثة المتكرّرة من قبل الحكومة الحليفة في بغداد، لم تحرّك الإدارة الأميركية ساكناً إلا بعد وصول «داعش» إلى محافظة أربيل في شمال العراق، وانهيار البيشمركة، التي قيل الكثير عن حصانتها، أمام الهجمات العاتية لقوات «داعش»، عندها فقط تحركت إدارة أوباما تحت طائلة تعرض المصالح الأميركية للخطر.
لقد وجد كثير من المحللين في الخطوة الأميركية الأخيرة، دفاعاً عن مشروع تقسيم العراق، وإلا فما الذي يفسر صمت الإدارة المطبق أمام اعتداءات «داعش» التي نتج عنها طرد المسيحيين من الموصل، الذين شكّلوا مكوناً أصيلاً، في تاريخها لآلاف السنين.
ومع ذلك، لا يمكننا الجزم، رغم الضجيج العالي، بأن أميركا وحلفاءها عازمون حقاً على مواجهة «داعش». فما تمخض عن اجتماع «الناتو» مؤخراً، لا يشي بتصميم أكيد على ذلك. فالمجتمعون أكدوا أنهم لا ينوون الدخول في مواجهة عسكرية معها على الأرض، وأنهم سوف يكتفون بضربات جوية على مواقعها. إن ذلك يعيد إلى الذاكرة تجربة المواجهة الأميركية مع القاعدة، في اليمن وأفغانستان وباكستان، التي مضى على بعضها أكثر من ربع قرن دون أن تتمكن من تحقيق أهدافها. لقد تضاعف نشاط «القاعدة» في هذه البلدان، وعجزت حكوماتها حتى تاريخه عن القضاء عليها.
معضلة أخرى، تواجهها الحملة الأميركية على «داعش»، فالذين يقاومون العملية السياسية في العراق لا يقتصرون على «داعش»، بل يشاركهم شيوخ العشائر، وكثير منهم كانوا جزءًا أساسياً في الصحوات، التي هزمت «القاعدة» قبل ثماني سنوات. ويشاطرهم في المقاومة أيضاً، بقايا الجيش الوطني العراقي، الذي جرى حله بعد الاحتلال مباشرة. كما تشاطرهم في ذلك، تنظيمات أخرى، لا تحمل أفكاراً متطرفة، كأتباع الطريقة النقشبندية، وجيش المجاهدين، وجميعهم رفضوا مبايعة البغدادي بالخلافة. وهؤلاء جميعاً سيكونون، لو تم التوجه عملياً نحو تحقيق مصالحة وطنية، عناصر فاعلة ومؤثرة في الحرب على الإرهاب. ولكن ذلك رهن لتحقيق انقلاب سياسي في الفكر، يعيد الاعتبار للهوية الوطنية العراقية، وينهي بشكل لا لبس فيه العملية السياسية التي استندت على القسمة بين الطوائف والأقليات، وصادرت الهوية العربية لبلاد ما بين النهرين.
والمعضلة التي تواجه مشروع القصف الجوي، بدون طيار، كما أثبت تاريخ مواجهة «القاعدة» في أفغانستان وباكستان واليمن؛ أنه كثيراً ما يكون عرضة للخطأ. وقد تسبب في حالات كثيرة لمصرع العشرات، بل المئات من المدنيين.
المعضلة الأخرى، هي عدم فاعلية الحلف المقترح تشكيله من دول المنطقة لمواجهة «داعش»، فليس هناك كما يبدو من هو على استعداد ضمن البلدان العربية، وبشكل خاص بلدان الخليج العربي، لإرسال أفراده وجنوده للقتال في العراق، كي يقدم البلد في النهاية، على طبق من ذهب هدية للقوى الإقليمية المجاورة، كما قُدّم العراق من قبل لها، إثر انسحاب القوات الأميركية من أرض السواد.
واضح أيضاً، أن الحرب على «داعش» لن تشمل الأراضي السورية إلا في حال إعلان أميركا وحلفائها بشكل صريح تراجعها عن دعم المعارضة السورية. لقد أكدت الحكومة السورية على لسان وزير خارجيتها أن أي تدخل عسكري غربي في سورية تحت ذريعة مواجهة «داعش» سوف يعد عدواناً، وستعمل حكومته على التصدي له بكل الوسائل. وذلك يعني أن مواجهة «داعش» فوق الأراضي السورية، ستحمل كثيراً من التعقيدات لصانع القرار الأميركي، ولحلفائه في الغرب والمنطقة عموماً. فالحكومة السورية، سوف تستثمر الاستراتيجية الأميركية الجديدة، من أجل كسب نقاط سياسية في صالحها، يدعمها في ذلك أن روسيا الاتحادية، ستقف معها هذه المرة، كما وقفت إلى جانبها مرات ومرات، منذ اندلاع الأزمة فوق أراضيها قبل ثلاث سنوات.
وعلى هذا الأساس، فإن من الصعب تصور قيام إدارة الرئيس أوباما بالتدخل العسكري المباشر في سورية، دون تنسيق مسبق مع الحكومة السورية. والأكثر احتمالاً هو أن تقتصر المواجهة العسكرية، لتنظيم «داعش» على ضربات جوية فوق سماء العراق وحدها، ومن غير تدخل بري، وأن تكون سورية خارج دائرة هذه المواجهة.
لن تحسم هذه المواجهة – بالشكل الذي يتوقع أن تجري فيه – مشكلة الإرهاب. فجذور المشكلة، تكمن في العملية السياسية، التي هندس لها السفير برايمر. والمطلوب لهزيمة «داعش» وأخواتها، هو تحقيق مصالحة وطنية، بين مختلف مكونات النسيج العراقي، وإعادة تشكيل الجيش العراقي، بعقيدة وطنية، غير طائفية أو حزبية، وإلغاء قرار الاجتثاث الذي تسبب في حرمان أكثر من مليون عائلة عراقية من العيش الكريم، والسماح للمهجرين بالعودة إلى أماكن سكنهم.
ينبغي العمل، على صياغة دستور جديد للبلاد، يؤكد هوية العراق العربية الإسلامية، ويكون أعلى من الانتماءات المذهبية والطائفية والعرقية. إن ذلك يعني اعتبار العملية السياسية، التي دشنت بعد الاحتلال والمعتمدة على نظام المحاصصة؛ ملغية، وقيام عملية بديلة تتأسس على نظام يكون فيه العراق وحدة متكاملة، وتسود فيه روح المواطنة الكاملة، وينال المرء حقوقه على أساس جدارته وما يقدمه لوطنه، وليس على أساس انتمائه وموقعه الحزبي. إن تشكيل حكومة وحدة وطنية، حكومة خلاص وإنقاذ للعراق، تأخذ بعين الاعتبار جملة الحقائق التي أشرنا لها، وهي المدخل الحقيقي لمواجهة الإرهاب، إرهاب «داعش» وتشعباتها. وما لم يتحقق ذلك، فليس أمام العراق سوى مواجهة مزيد من العواصف والبراكين.