عبدالنبي العكري
«الحرب تبدأ في العقول»… قول مأثور
اكتسبت حملة الكراهية ضد مكون أساسي من الشعب وشيطنة المعارضة أبعاداً خطيرةً مع بدء الحوار الوطني ما بين المعارضة من ناحية وثلاثي تحالف السلطة من ناحية أخرى. إنها استراتيجية خطيرة لدفع هذا المكوّن للكفر بإمكانية إنصافه أو قبوله كمكوّن وطني أساسي شريك في الوطن، ويترتب على ذلك بالتالي تحمل المسئوليات في كل مواقع الدولة العادلة، ودفع ما عليه من تبعات.
إن ما يجري عملية دفع هذا المكوّن لمقاطعة الدولة وزيادة تهميشه، في نظام أشبه بنظام الفصل العنصري لجنوب إفريقيا، حيث تطهّر الأقلية البيضاء الأكثرية الإفريقية والآسيوية، واحتكار الثروة والسلطة، وتهميش وقمع أغلبية الشعب. أما الهدف الثاني فهو إما إجبار المعارضة، على الالتحاق بالسلطة من موقع التابع الذي يقبل الفتات، وبالتالي شقّ صفوفها ودق إسفين بينها وبين جماهيرها، وبالتالي تصبح لا حول لها ولا قوة؛ أو دفعها للتطرف والخروج من العملية السياسية والحوار، والذي هو أصل معتل ولا يقوم على قواعد عادلة. كما إنه يستهدف وضع اللوم على المعارضة في فشل الحوار وبالتالي عزلها عن التعاطف العربي والدولي الذي أدرك أخيراً عدالة قضيتها ومعقولية مطالبها، وأضحى يتعامل معها وخصوصاً الدول الكبرى، بشكل رسمي وإيجابي.
لا أريد أن أستطرد في تبيان جوانب هذه الاستراتيجية التي تقود الدولة مكوناتها وتنضوي تحتها قوى سياسية وجمعيات أهلية، وصحافة ورجال دين ومثقفون وأكاديميون. وباختصار فهي استراتيجية القمع الشامل والتجريم قضائياً وسياسياً، والتشهير والإقصاء والتهميش. إنها حالة حصار لغالبية الشعب، في حرب غير معلنة.
ألا تدرك الدولة ومن التحق بها، أن هذه الاستراتيجية قد تحقق لهم إخضاع الشعب مادياً، لكنها لا تستطيع إخضاعه معنوياً مادام مستعداً أن يقدّم كل التضحيات؟ ألا تدرك الدولة مغزى أن تزغرد أم ثكلى لاستشهاد ابنها وتزفّه كالعريس إلى قبره؟ ألا تدرك السلطة أنها بذلك تحكم على أشلاء وطن وشعب ممزق؟ ألا تدرك أنها تترك ندوباً عميقة في ذاكرة المواطنين؟ البحرينيون لم ينسوا حتى الآن هجمات (الفداوية) في العشرينات، فكيف سينسون ما يجري اليوم وهو موثّقٌ بالصوت والصورة، وتتجاوز ضحاياه كثيراً ما جرى في العشرينات.
أمامنا تجربة لبنان القريبة حيث توصل اللبنانيون إلى تسوية، وإن لم تكن مثاليةً، بقبولهم بالعيش المشترك وتقاسم السلطة بعد حرب أهلية لمدة خمسة عشر عاماً أكلت الأخضر واليابس. وأمامنا تجربة جنوب إفريقيا حيث تمت تصفية النظام العنصري وإقامة نظام ديمقراطي على أنقاضه، يستوعب ويمثّل مختلف مكوّنات الشعب العرقية، السود والبيض والآسيويين، ومختلف التيارات السياسية من الشيوعيين حتى اليمينيين، واليوم يتفاخر أبناء جنوب إفريقيا بانتمائهم لهذا الوطن العظيم بعد أن كان سجناً كبيراً في نظر العالم.
الصورة واضحة، وهي كالحة جداً ومؤلمة لكل من له ضمير، والحل واضح: إيقاف استراتيجية القمع الشامل وحملات الكراهية وشيطنة المعارضة. مطلوبٌ تغيير جذري في ذهنية الحكم، والإتيان بحكومة وفاق وطني من الأسرة الحاكمة ومكوّنات الشعب، ثم الدخول في مفاوضات جدية في ظل أجواء انفراجية وثقة بإيقاف حملات القمع والمحاكمات الجائرة وإطلاق سراح جميع المعتقلين وعودة المنفيين وإعادة الجنسية لمن أسقطت عنهم. ذلك حدث جزئياً في بداية العهد الجديد، ولكن جرى الارتداد عنه بحيث دخلنا في مرحلةٍ أسوأ من مرحلة التسعينات. ومن دون ذلك لن يتقدم الحوار إلى الأمام لأن الدولة تريد به إلهاء المعارضة والدول الصديقة في الوقت الذي تواصل فيه استراتيجيتها، وفي أفضل الأحوال انتزاع تنازلات من المعارضة عبر المفاوضات ما لم تنتزعه بالقوة، وهي استراتيجية معروفة خبرتها المعارضة من قبل ولن تسقط في حفرتها مرةً أخرى.