علي محمد فخرو
الآن والأسئلة تطرح بقوة عن الدور الذي تلعبه أميركا في دول مجلس التعاون، وذلك بسبب عواصف الحرب الخليجية المقبلة التي تلمع في أفق المنطقة، دعنا نتلمَّس طريقنا للإجابة على تلك الأسئلة من خلال استرجاع بعض التاريخ ومن خلال تفكيك الأسس التي تحكم العلاقة الأميركية – الخليجية، لنحاول بعد ذلك رسمها بقدر الإمكان في صورة مفهومة.
أولاَ، يذكر الكاتب الأميركي ديفيد هارفي في مقابلة صحافية بأنه عندما ارتفعت أسعار البترول بصورة كبيرة في العام 1973 وتجمعت فوائض مالية كبيرة لدى دول الخليج، وضعت واشنطن لنفسها خيارين. حسب تسريبات لمصادر التجسس البريطانية كان الخيار الأول الاستعداد لغزو واحتلال السعودية إن لم ينجح الخيار الثاني. الخيار الثاني كان إقناع السلطات بتدوير الفوائض في الاقتصاد العالمي وبشرط أن يتمَّ ذلك من خلال البنوك الأميركية في نيويورك. وقد نجح الأميركيون في تنفيذ الخيار الثاني.
الواقعة التاريخية تلك، مهما كانت نسبة الحقيقة فيها، تشير إلى المطلب الأول في الإستراتيجية الأميركية تجاه دول مجلس التعاون البترولية. هذا المطلب، والذي هو جزء من إستراتيجية أميركية كبرى تجاه العالم كلّه، يتلخَّص في هيمنة أميركية على أسواق السلع وأسواق المال. وإذن فطالما توجد فوائض مالية بترولية في دول مجلس التعاون فإن أميركا لن تقبل بأقل من ربط العملات المحلية ومبيعات البترول بالدولار ليظلَّ جالساً على عرش مملكة العملات العالمية، ولا أقلَّ من أن يذهب القسم الأكبر من الفوائض ليصبَّ في الاقتصاد العالمي من خلال المؤسسات المالية الأميركية في نيويورك لتقوم هي بدورها بإقراض تلك الفوائض لبقية دول العالم، ومن ثم السيطرة على الأسواق المالية العالمية.
أميركا على استعداد لاستعمال القوة إن لزم الأمر، ومثلما فعلت في العراق، لإرغام دول مجلس التعاون القبول بإستراتيجيتها تلك. لكنَّ ذلك القبول يعني فقداناً تاماً لحرية القرارات الاقتصادية من قبل دول المجلس.
ثانياً – إبَّان رئاسة جورج بوش الابن وضع الثلاثي الصهيوني، رامسفيلد وولفويتز وبيرل، الإستراتيجية التي يجب أن تحكم الآلة العسكرية الأميركية في الوقت الحاضر: الحرب المستمرة التي لا تصل إلى نهاية قط، ولكن ليس بالضرورة كاحتلال وغزو، وإنَّما كإظهار دائم، وبأشكال مختلفة، للقدرات التكنولوجية الشيطانية الهائلة التي تملكها الجيوش الأميركية، وذلك من أجل إحداث الصَّدمة والرُّعب عند الآخرين.
من هنا المشهد الأميركي في الخليج: بوارج حربية مرعبة تمخر عباب مياه الخليج ليل نهار، قواعد جوية وعسكرية في كل مكان، مخازن هائلة للسلاح، وتصريحات وتهديدات باستعمال القوة ضدَّ هذه الجهة أو تلك، ومعاهدات واتفاقات مع كل دولة ومؤسسات تجسسية أمنية في أثواب مدنية… إلخ.
هذه الإستراتيجية العسكرية – الأمنية في الخليج هي أيضاً جزء من الإستراتيجية الأميركية العسكرية الكبرى تجاه العالم كلٍّه.
الاستراتيجيتان السابقتان، السيطرة على الأسواق المالية والاستهلاكية وإحداث الصدمة والرُّعب عند الآخرين من خلال استعراض دائم للتفوق العسكري الهائل، هما المكوِّنتان الأساسَّيتان للإمبريالية الأميركية تجاه العالم بصفة عامة وتجاه دول مجلس التعاون. وهي امبريالية تختلف عن الامبرياليات الإمبراطورية الكلاسيكية السابقة.
ثالثاً، يستطيع هذا القائد أو ذاك المسئول في دول المجلس، وتستطيع الآلات الإعلامية الدٍّعائية، ويستطيع الانتهازيون أو المخدوعون، يستطيع هؤلاء الإدِّعاء بأن قرارات دول المجلس تجاه هذا الموضوع أو تلك الدولة هي قرارات ذاتية مستقلَّة وطنيَّة، لكنَّ الحقيقة المرَّة هي أنها لا تريد ولا تقدر على الخروج عن إملاءات الإستراتيجيتين الأميركيتين السابقتين. وهما بدورهما، حسب إملاءات الكونغرس الأميركي واللُوبي الصهيوني في أميركا وفلسطين المحتلّة، يجب أن تتناغما دوماً مع الإستراتيجية الصهيونية تجاه الوطن العربي والعالم الإسلامي.
رابعاً، الموجع هو أن ذلك الإملاء يكمِّله ويعزِّزه قبول تام وتعاون مؤكَّد بين الدوائر الأميركية المعنيَّة وبين بعض الدوائر والنُّخب السياسية والمالية في دول المجلس. ومن المؤكد أن نجاح الاستراتيجيات الأميركية ما كان ليتمَّ لولا ذلك التعاون الوثيق مع الدوائر والأشخاص المحليين.
خامساً، هل هناك من مخرج من هذه الحلقة الجهنميَّة؟ الجواب هو نعم. إذا قام نظام حكم ديموقراطي حقيقي، يكون فيه للشعوب وللمؤسسات التشريعية ولمؤسسات المجتمع المدني وزن كبير في اتخاذ القرارات، فإن بالإمكان بناء علاقة مع أميركا مبنيَّة على المصالح المتبادلة الشرعية وعلى حقِّ ممارسة الاستقلال الوطني من قبل دول المجلس، النضال من أجل الديموقراطية مفتاح أساسي لهذه المشكلة وكثير من المشاكل الأخرى، لا لأقطار مجلس التعاون فقط، وإنَّما لأقطار الوطن العربي كلِّه، فأهلاً بالربيع العربي