في التاريخ والتراث العربي حكاية تتحدث عن أعرابي عاش أيام الفتنة الكبرى، تصفه الرواية بأنه كان يجسد قمة الانتهازية والوصولية، والسعي وراء مصالحة الشخصية دون الاكتراث بما يمكن أن تجلبه مآربه الشخصية على مجتمعه أو المحيطين به، والسبب أن هذا الأعرابي ليس لديه رادع أخلاقي يمنعه من التلون والتقلب حسب تغير الظروف ومقتضيات المصلحة. لذلك كان يشاع عنه بأنه يقول: ''أصلي وراء الإمام علي لأنه أعلم، وأتغدى مع معاوية لأنه أدسم، وأنام في الجبل لأنه أسلم''.
وهذا القول يشرح نفسه بنفسه، وفيه من الوضوح ما يغني عن الشرح والتفسير، كما أنه يكشف عن ظاهرة لا يخلو منها مجتمع، وهي الوصولية التي يتصف بها بعض الناس، والقدرة على التلون والتشكل مثل ''الحرباء''، والتخفي وراء يافطات وشعارات براقة لذر الرماد في العيون، والضحك بها على بعض السذج الذين يمكن أن تنطلي عليهم ألاعيب هؤلاء ''الحواة''.
وكما قلنا فإن هذه النوعية من البشر لا يقتصر وجودها على زمن محدد أو مكان آخر، بل هي ظواهر وحالات تتكرر بأشكال مختلفة في كل العصور.
وحالنا اليوم مع بعض مدعي الثقافة من الكتاب والصحفيين هو حال ذلك الأعرابي الوصولي، الذي يتظاهر بالصلاة وراء ''الإمام علي'' وفي الوقت ذاته يحرص ألا يفوته ''دسم معاوية''، وفي لحظات بروز بعض المشاكل أو اشتداد الأزمات التي تتطلب التضحية والمواقف الواضحة والصريحة، نجد صاحبنا هذا يلوذ بالصمت (الجبل)، ويتقدم صفوف المتفرجين، ثم تجده فجأة في مقدمة المصلين يلوك الشعارات ويتمتم بالدعوات، ويبحث عن بعض الموضوعات ليطل من خلالها مرة أخرى على الناس ليمارس سياسة الخداع والتضليل، والظهور بالمظهر الوطني الغيور على مصالح الوطن والناس، وإضفاء بعض الطلاء والمساحيق التي يزين بها ''كتاباته'' لإخفاء ما يُرَوِج له من فتنه وتحريض مبطن، يخدم به مصالحة ومصالح من يلتقي معه في الهوى الأيديولوجي والسياسي. لذلك نجد هذا الكاتب هو معدوم الثقة عند الناس وإن وجد من يجامله، ولا يمكن لمثله لمجرد التظاهر بالصلاة ''وراء الإمام'' أنه يعرف معنى الشرف والاستقامة والالتزام، والانحياز إلى جانب الحق، ورفض الباطل، ذلك لأن ''دسم معاوية'' قد عقد لسانه إلا من قول الزور وأكل السحت، وعطل ضميره، وشلَّ تفكيره عن رؤية العدل والإنصاف، فهذه هي قيم ومبادئ الإمام علي (ع)، ومن هنا كان قوله: ''إن من طلب الحق وأخطأه ليس كمن طلب الباطل وأدركه''.
ونحن نستعرض هذه النماذج أو نتوقف عند بعض هذه الحالات الاجتماعية المَرضِيّة في وقتنا الحاضر، نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام نموذج يفرض نفسه بقوة، لأنه يؤكد ويكشف ذلك الخيط الموصول والرابط بين ''الانتهازيين'' و''النفعيين'' مهما اختلفت أزمانهم وتعددت أماكنهم أو تنوعت صورهم ومشاربهم السياسية والفكرية. فهناك دائماً ما يوحدهم وهو حُب الذات والمصلحة الخاصة ولا شيء قبلها أو بعدها. ويبرز هذا ''النموذج'' الذي نتحدث عنه هنا في تلك التقارير التي كشفت عن أن الجيش الأمريكي قد قدّم ''رشاوى'' لعدد من ''الكتاب'' و''الصحفيين'' مقابل نشر تقارير وأخبار ومقالات تجمّل صورة المحتل الأمريكي وتتستر على جرائمه التي يرتكبها في العراق، كمما أن بعض تلك التقارير قد أكدت أن بعض الصحف قامت بنشر التحقيقات والأخبار الصحافية التي تتصف بالكذب والخداع في محاولة منها لتحسين صورة الوحش الأمريكي الغازي، وهي صورة من صور التدليس والنفاق التي أشاعها الاحتلال لإخفاء فضائحه وفظائعه في حق العراق والعراقيين. والذي ليس موضع شك هنا هو أن هذا الإغراء ''بالدسم الأمريكي'' قد أسال لعاب العديد من الانتهازيين من الكتاب والصحفيين، الذين هم دائماً تحت الطلب، وعلى استعداد لبيع أقلامهم وضمائرهم، والتغذي من هذا ''الدسم الأمريكي'' على حساب العراق وعلى حساب دماء الضحايا والثكالى من شعبه الصابر.
هنا يلح علينا سؤالٌ جوهري، هل الولايات المتحدة الأمريكية بكل ما تملكه من قوة إعلامية ودعائية هائلة، وما لديها من إمكانيات وقدرات على الإغراء والإغواء، هل مارست أسلوب شراء الذمم والضمائر وقامت بانتهاك أخلاقية المهنة الإعلامية والصحفية في داخل العراق؟ أم أن هذا الإعلام الخادع والكاذب استطاع أن يوجد له فروعاً وأتباعاً في العديد من الدول؟ ومنها دولنا العربية؟ وبعض هؤلاء الأتباع والذيول من يعيشون بين ظهرانينا وقد تمرسوا في فنون الكذب والنفاق، والتخفي وراء شعارات خادعة ومضللة! لذلك تجدهم لا يملون في كتاباتهم من التشدق بالحديث عن ''الحريات'' وحقوق الإنسان، ولا يتوقفون عن تصديع رؤوسنا يومياً في ''أعمدتهم الصفراء'' عن أنظمة القمع والاستبداد، ولا يكفون عن العويل والعواء وهم يرصون الكلمات الإنشائية الفارغة من أي محتوى عن ''التعددية'' و''الديمقراطية'' وحرية الرأي والاعتقاد! وإذا ما انتقلنا من العموميات إلى التخصيص سوف لن نجد في معرفة هذه الفئات والنوعيات من الأقلام التي بات الناس على وعي تام بشخوصها وبأهدافها القائمة على النفعية الذاتية، وبنواياها الهادفة إلى النيل من سمعة ومكانة المخالفين لها، وتبييض صحائف المحسوبين عليها؟
وبالتمعن جيداً فيما يكتبونه والأسلوب الذي يتناولون به مقالاتهم سوف تكتشف أسلوب الدس والتلفيق، وسنرى حجم الألغام والصواعق السياسية والطائفية المشحونة بها هذه الكتابات، إضافة إلى ما تحمله من صفات التلون في المواقف خلال العديد من القضايا الوطنية والقومية، كما سنلاحظ أن بعض تلك الأقلام لا تتورع في الذهاب إلى أبعد حد في ممارساتهم ''الوصولية'' و''الانتهازية''، ولا ينتابهم شعور بالوجل أو الخجل مما يبثونه من سموم وأحقاد، وهو ما يجعلهم بعيدين عن أية مصداقية فيما يطرحونه من أفكار سواء مع الناس أو مع الوطن. هم فقط ينطلقون من رواسب وعُقد لا زالت تفعل فعلها في تشويه نفوسهم وعقولهم وتدفع بهم إلى نوازع متبدلة من الانتقام لدرجة جعلتهم موضع سخرية وشفقة في آن واحد!
ومن المناسب هنا من قبل التذكير أو تقديم بعض الأمثلة من هذه النماذج، أن لا نغفل - ومن باب المقارنة بالشيء فقط - بالكثير من الكتاب والصحافيين الذين يتميزون بعفة النفس واحترام الذات، واحترام القلم الذي يكتبون به، وهم لا يخوضون في أوحال السياسة لتحقيق مآرب وأطماع شخصية، ولا يستخفون بعقول ومشاعر قرائهم، ولا تحركهم أحقاد شخصية أو تاريخية تجاه الناس أو بعض القوى السياسية، لذلك هم موضع احترام وتقدير، حتى ممن يخالفون أو يختلفون معهم في وجهات النظر! بعكس أصحابنا الذين هم صورة ''عصرية'' لذلك الأعرابي الانتهازي في حكايتنا التراثية.
والنموذج الأول نجده في ذلك الكاتب المسعور والطائفي حتى النخاع، الذي لا يرى الأشياء من حوله ولا يبصرها إلا من خلال منظار الطائفية، ولا يحلل أو يفسر الأحداث الوطنية أو القومية إلا من زاوية ما يراه أو يعتقده صحيحاً، والذي يتماشى مع أفكاره ومعتقداته السقيمة، لذا لا تجد غير قلم موتور وحاقد ورافض لكل ما يتناقض مع توجيهاته وقناعاته الطائفية والفئوية، ولا يحمل أية صفة خلقية تردعه عن استخدام كل ما يسعفه به قاموس الشتائم والسباب، وما يزخر به ممن ''مفردات'' و''عبارات'' نابية للتعرض بها إلى قادة رموز وطنية وقومية، هم بكل المقاييس أكثر علماً وعلواً وشرفاً منه، ولكن ''حمى الطائفية'' و''فيروس الكراهية'' اللذين أصابا قلبه وعقله هما المسؤولان عن هذيان وهلوسات هذا الكاتب، وبالصورة التي جعلته يتوهم بأن ''شطحاته'' الفارغة يمكن أن تنال من ''قامة الرجال'' العظام والشرفاء المدافعين عن عز وشرف الأمة، والمتمسكين بالحق والمبادئ مهما بلغت شدة وقسوة الظروف.
أما النموذج الآخر فهو من ذلك النوع الذي يمكن أن تصفه ''بالصنيعة'' أو''الخلطة الإعلامية''، ولكن ''الشيوعية'' هي الماركة المسجلة له، وإن حاول أحياناً ارتداء قميص اليسارية أو القومية أو الدينية أيضاً، فهذا التمويه المقصود هو جزء من شخصيته واستراتيجية في التعامل مع القراء، وكل كتاباته تحمل رسائل وتوجهات ذات مغزى لا تخطئها العين، وهو لديه قدرات ليس قليلة على تشويه الحقائق وقلب النقائص إلى مزايا وبالعكس! كما أنه يمتاز بأسلوب الدس والتحريض، ومحاولة اللعب على بعض التناقضات أو الخلافات بين الأطراف، وإثارة كل ما يمكن أن يزيد من حدتها واشتعالها بهدف الوصول إلى غاياته وأهدافه الخبيثة، وأشد ما يغيظ هذا الكاتب ويقلقه هو أن القوى السياسية قد تتناسى خلافاتها وتقترب من جوهر القضايا الوطنية المتفق عليها وتسعى إلى توحيد صفوفها، وتعزيز تحالفها حول قضايا وملفات وطنية ملحة، كما هو حاصل على مستوى الساحة السياسية عندنا، بوجود ما يطلق عليه ''بالتحالف'' أو''التنسيق الرباعي'' حول المسألة الدستورية، وما أفرزته من تجاذبات واصطفافات في العملية السياسية، ومن المشاركة أو المقاطعة للانتخابات البرلمانية. وكان رد فعل هذا الكاتب هو أنه وعلى مدى أربع سنوات لم يترك سانحة أو يضيع فرصة دون التعرض السلبي للجمعيات السياسية الأربع من خلال ''فضاءاته الفارغة''، ومحاولة النيل أو التأثير في قراراتها والتشكيك في مواقفها، واللجوء إلى أسلوب التحريض عليها، وهو لا يألو جهداً في توظيف بعض الأخطاء أو الممارسات السلبية التي تصدر من هذا الطرف أو ذاك للطعن في دوافع ونزاهة ''الأطراف المتحالفة''، والعزف المستمر على وتر الخلافات الفكرية أو السياسية بين هذه القوى حول بعض القضايا القومية كما هو الحال بالنسبة إلى ''القضية العراقية''، والموقف من الاحتلال الأمريكي، ولا يزال هذا الكاتب يسعى إلى إحداث قطيعة بين هذه الأطراف وهدم أسس هذا ''التحالف'' من خلال تقليب صفحات الماضي والنبش في التاريخ القديم واستحضار بعض الأحداث فيه وتحويلها إلى سلاح في حربه الراهنة والمستعرة ضد الجمعيات ''الأربع''، وينكشف هذا السياق قمة ''الانتهازية'' لدى هذا الكاتب عندما لا يخجل من إرسال إشارات الغزل أو التقرب صراحة من بعض أطراف هذا ''التحالف''، والتمادي في توجيه الطعون والشتائم للقوى الأخرى فيه، خاصة التيار القومي فيها، في تناغم وانسجام تامين مع مواقف بعض القوى السياسية من بقايا ''الشيوعية المندثرة'' التي ترفع شعار التقدمية والحرية، ولم تجد حرجاً في القفز إلى قطار ''الإمبريالية الأمريكية'' القادم لغزو المنطقة، والقبول بالدور السياسي المذل والمهين الذي يخدم قوى الاحتلال كما هو الموقف ممن الاحتلال الأمريكي - البريطاني للعراق. لذلك كان يزعج هذا الكاتب أن يرى القوميين الشرفاء في مقدمة الصفوف للدفاع عن العراق وشعبه، ويقلقه أن يجد ''البعثيين الأصلاء'' والأوفياء لمبادئ وقيم الأمة هم من يقودون المقاومة الوطنية العراقية، ويتصدون للاحتلال وأعوانه وحلفائه، ويصنعون ملحمة ثورة تحرير العراق، ويلحقون العار والمهانة بأكبر وأقوى دولة في هذا العصر، وإن وصفهم ''بالصداميين'' أو ''العفلقيين'' لا يسيء ذلك لهم، بل يزيدهم شرفاً وسمواً. وأمام هذه الحالة ''البطولية'' والرجولية يظهر ويكشف عجز وحقد القوى المناوئة بكل ما يحمله هذا الحقد الأعمى من خيبة وهزيمة وانحطاط.
فهذا الكاتب الذي درج على الطعن والتشكيك في طبيعة التحالف بين القوى القومية واليسارية والدينية لا يخجل من مخاطبة القوى ''الدينية'' منها، ويطالبها إعادة تحالفها والالتفات إلى بعض العناصر المحسوبة على ''القوى الشيوعية'' التي قفزت إلى البرلمان في ظل ظروف معروفة، وباتت حظوظها في المرة المقبلة ضعيفة إن لم تكن معدومة؟ كما أن هذا الكاتب لا يرى غضاضة في تحالف الحزب الشيوعي في العراق مع الاحتلال الأمريكي ومع بعض القوى والرموز الخائنة والعملية، والدخول معها في جبهة للمشاركة في الفتات الذي يجود به المحتل عليهم من المحاصصة الطائفية؟ بل إن هذا الكاتب لا يجد ما يعيبه شخصياً من أن يحل ضيفاً على الإدارة الأمريكية لعدة أسابيع ليعود محملاً ''بالدسم الأمريكي''، وينضم إلى جوقة المطبلين والمزمرين للاحتلال، والمساهمة في الحملة الإعلامية والدعائية ضد العراق ونظامه الوطني والقومي الذي يقوده حزب البعث قبل الاحتلال واستمراره في نفث سمومه وهجومه المسعور حتى هذه اللحظة، دون أي رادع أخلاقي أو مهني. إنها حكاية الأعرابي الانتهازي المتواصلة والمستمرة عبر كل العصور وفي كل الأوقات.
كلمة أخيرة نهمس بها في إذن كل المعنيين فيما قلناه وكتبناه هنا، وهي أننا لم نكن نود أو نرغب في اللجوء إلى هذا النوع من الكتابات، لكن وجدنا أنفسنا مضطرين لإفهام من يعنيه الأمر بأن سكوتنا وتجاهلنا - طوال هذه المدة - لكل من يصدر عنهم من ''إساءات'' و''تجاوزات'' لم يكن ناتجاً من ضعف أو خوف، بل هو ترفع عن هذا المستوى من السجال الذي لا يقدم معرفة ولا يخدم الحقيقة. وإننا دائماً نعتقد - ولا زلنا - بأن الوطن والأمة لديهما من القضايا والهموم ما يلزمنا توجيه كل الطاقات والجهود لمواجهتها وحل معضلاتها، بدل الدخول في هذا النوع من ''المهاترات'' و''المناوشات'' التي لا طائل من ورائها سوى النفخ في صورة بعض المهووسين بحب الظهور. وقد اكتفينا هذه المرة - الذي نرجو مخلصين أن تكون الأخيرة - اكتفينا بالتلميح دون التصريح، واكتفينا بالسباحة على ضفاف الشاطئ كما يقال دون ولوج أعماق البحر، وإن عادوا عدنا، وعلى الباغي تدور الدوائر.