عبد الحليم قنديل
ربما لا يوجد أحد فاته أن يدرك مغزى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع غزة فى الأيام الأخيرة.
فقد أرادت إسرائيل – بالطبع- تأكيد ما تتصوره حقا لها بالعدوان في أي وقت،
وإطلاق يدها في خرق اتفاق التهدئة الضمني، واستهداف كل مجموعات المقاومة الفلسطينية المسلحة، واغتيال من تراه خطرا قائما أو محتملا، وبدعوى الدفاع عن البلدات الجنوبية الواقعة في مرمى الصواريخ الفلسطينية، أو توقي عمليات فدائية محتملة على نمط ”عملية إيلات“ قبل شهور، وقد فعلت ما أرادت هذه المرة أيضا، واستهدفت قادة تنظيم لجان المقاومة الشعبية المحسوب على حماس، وكذا قادة جماعة الجهاد الإسلامي الحريصة على الاستمساك بمبدأ المقاومة المسلحة.
أكثر من ذلك، تبدو الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة، وحملات القصف العنيف بالطائرات، تبدو هذه التحركات الحربية أشبه ببروفات تمهد ربما لعدوان واسع، قد تكرر فيه ما جرى في حرب غزة أواخر 2008 وأوائل 2009، والتي عجزت فيها عن استئصال حكم حماس، لكنها دفعت حماس إلى نوع من البراجماتية السياسية، وتقييد حق السلاح المقاوم، وحملات إطلاق الصواريخ الأبعد مدى، وضمان قدر من التهدئة يتيح لحكم حماس الاستقرار والاستمرار , والتركيز على جهود رفع الحصار، والاستغراق في جلب معونات لتحسين مستوى معيشة السكان، ومع تعطيل فعلي لمبدأ المقاومة المسلحة، وإرجائه إلى الأجل الذى لا يجيء، والانشغال بتطوير قوة حماس التسليحية، لا لمواجهة إسرائيل حالا، بل لضمان وإحكام السيطرة، وإلى حد بدت معه ”كتائب عز الدين القسام“ كأنها آخر من يهتم بحق الرد على المجازر الإسرائيلية الأخيرة، واكتفت بإيداء التعاطف مع الشهداء والضحايا، ودون ضمان فعلي لأن تسكت عنها إسرائيل، والتى تمهد – على ما يبدو- لحرب جديدة تنهك بها قوة حماس المخزونة.
لكن الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة لها هذه المرة مغزى مرئي آخر، يتجاوز حدود إنهاك غزة إلى مصر الموارة بقلق عنيف هذه الأيام، فقد قصدت إسرائيل بالمبادرة إلى العدوان إجراء اختبار، وجس نبص لحدود رد الفعل الذي قد يصدر عن القاهرة، خاصة بعد الفوز الكبير لجماعة الإخوان والتيار السلفي في الانتخابات البرلمانية، وسيطرة أكثرية إسلامية كاسحة على مجلس الشعب والشورى المصريين، واقتراب خط النهاية المعلن للفترة الانتقالية المصرية مع 30 حزيران (يونيو) المقبل، واحتمال نقل الحكم إلى حكومة إخوانية مع رئيس متعاطف أو مقيد الصلاحيات، واحتمال استقلال الجيش المصري بقراره ومجلسه العسكري عن حكومة إخوانية متوقعة، وفي سياق من تفاقم تحديات الداخل المصري، وعلى محاور السياسة والاقتصاد والأمن، وقد أرادت إسرائيل التى تراقب الوضع المصري بدقة وعناية وقلق ظاهر، أرادت أن تجري اختبارا بالسلاح تستبين به خرائط ردود الفعل على مسرح السياسة المصرية.
وقد بدت نتائج الاختبار مريحة لإسرائيل, وإن كانت خادعة، فلم يصدر عن المجلس العسكري الحاكم، ولا عن الحكومة الحالية التابعة له، لم يصدر عن القاهرة الرسمية أي رد فعل عنيف كانت إسرائيل تخشاه، ولم يصدر حتى بيان رسمي ذي قيمة وطنية، وعادت ريمة إلى عادتها القديمة على أيام المخلوع مبارك، وجرى استنساخ السلوك المعتاد نفسه، وكررت القاهرة الرسمية دور الوسيط إياه، والذى يستطلع رغبات إسرائيل عبر القنوات الدبلوماسية والمخابراتية المفتوحة، وينقلها إلى الفصائل الفلسطينية المعنية، ويحثها على وقف إطلاق النار الفلسطينية المحدودة توقيا لنيران إسرائيل غير المحدودة، ثم يجري الإعلان عن اتفاق تهدئة ضمني غير مكتوب، قيل هذه المرة أن إسرائيل تعهدت فيه بوقف عمليات اغتيال لقيادات فلسطينية، ومقابل تعهد الأخيرين بالتوقف عن أي عمل يمس أمن إسرائيل، ولم تشأ إسرائيل – كالعادة- أن تلزم نفسها بتعهد علني صريح، وحتى لاتكف يدها عن العدوان فى الوقت الذى تختاره، وبالوسيلة التى تحبها، وبالضحايا الذين تفضلهم، وهو مايعني – في المحصلة- أن إسرائيل احتفظت بطريقها إلى العدوان سالكة، ودون تخوف من ردود فعل ذات بال قد تصدر عن القاهرة الرسمية، وحتى إشعار آخر. غير أن ما بدا لافتا للنظر هو سلوك البرلمان المصري، والذى تسيطر عليه أغلبية الإخوان والسلفيين، فقد امتنع السلفيون عن جموح بدا من بعضهم خلال مناقشة سابقة للوضع في سوريا، وقتها تصايح بعضهم فى انفلات أعصاب مفهوم، ودعوا إلى فتح باب التطوع وإرسال كتائب الجهاد إلى سوريا، وبهدف المشاركة فى حرب ضد بشار الأسد، وهو ما لم نشهد مثيلا له خلال مناقشة العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة، مما أثار التعجب وعلامات الاستفهام، وكشف تقدم الأولويات السعودية – عند هؤلاء- فوق الأولويات الإسلامية ذاتها، أما الإخوان الذين تعد حركة حماس امتدادا تنظيميا لصيقا بهم، فقد سلكوا سلوكا آخر، فلم يشعلوها حرب مظاهرات فى الشوارع لإحراج نظام المجلس العسكري المعتنق لسياسة مبارك ذاتها، وتعلقوا بخشبة نجاة رماها لهم نائب من حزب الكرامة ذى الجذور الناصرية، يشغل النائب موقع رئيس لجنة الشؤون العربية في مجلس الشعب المصري، وأعد بيانا سياسيا يعكس عقيدة وموقف الناصريين الثابت، وطالب البيان بسحب السفير المصري من تل أبيب، وطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، وتجميد اتفاق الكويز، ووقف تصدير الغاز المصري لإسرائيل، وإعلان موقف مصري جديد ينتصر لخط المقاومة المسلحة وأولوية العداء لإسرائيل، بدا البيان كامل الأوصاف، وتصور صائغه النائب الناصري أن يصدر فى صورة قرار ملزم عن البرلمان، لكن أكثرية النواب الإخوان التي تعلقت بالبيان كحبل نجاة، راحت تفرغ العمل من مضمونه، وتحوله إلى مجرد مطالبة وتوصية غير ملزمة لأحد فى السلطة التنفيذية، ولا للمجلس العسكري الحاكم بطبائع الأحوال.
وفى المحصلة، بدت حماس فى موقف يشبه حالة الرئيس عباس، كلاهما لا يريد صداما مسلحا مع إسرائيل، وبدا موقف الإخوان المسلمين في مصر تحت سقف التحكم، وبدت إسرائيل وحدها ناجية بعدوانها، ودونما عقاب بالسلاح أو بالسياسة، وكأن الأطراف كلها اجتمعت على تأكيد حق العدوان الإسرائيلى، وهو ما يغري بالمزيد.