حصى في أحذية الوطن
غسان الشهابي
الأشهر الممتدة من فبراير الماضي إلى اليوم، التي أجّلت الكثير من الملفات القديمة التي ما عاد لها معنى اليوم لكي تطرح؛ كلها أفرزت قضايا جديدة لواقع جديد، وأحالت المطالبات السابقة إلى ما يشبه الترف الذي من غير اللائق التطرق له أو العودة إليه من جديد، إلا بعد أن تُحل الأزمات العالقة، سواء التي أشار إليها «تقرير بسيوني» وتلك التي لم يُشر إليها، لأنها جميعاً تصنع الواقع الكريه والمرير والقميء الذي من الصعب على أيٍّ منا الإشاحة عنه.
إن التطرف الذي لا يعرف إلا تطرفاً مضاداً ليواجهه، هو المأساة الأكبر في المشهد البحريني، والتي تسببت في النتيجة النهائية إلى انفراط عقد العقل، وأسفرت عن هذا الكم من الاحتقان العالي التوتر، والذي لا يدفع ثمنه الحقيقي إلا الذين يقفون بين خطي النار، لهم ناقة الوطن وبعيره وحسب، وغير ذلك فليس لهم في هذا الصراع القائم على كسر العظم، حتى لو كان هذا العظم هو العمود الفقري للوطن، ليصاب من بعده بالشلل، وليس لهم في الفذلكات السياسية والمناورات القائمة على قدرة صفّ الكلام والتنطع، وليسوا يحركون الجماهير في لقاءات متفاوتة الحشد من أجل إثبات المكاثرة والمغالبة في كل مفصل.
هناك تعبير يستخدم غالباً إذا ما كان هناك موضوع مزعج ومؤلم، أو ربما شخص مقلق، فيقال إنه كالحصاة في حذائي، بما تعنيه الحصاة في الحذاء من تبرّم وتضايق المنتعل منها، وأنها تصرف انتباهه عن التركيز على المهم من الأعمال، وأنها تذكره دائماً أنها موجودة هنا، فلا يطأ أرضاً إلا ووخزته في أسفل قدمه مسببة له آلاماً وضيقاً كبيرين، ولا يمكنه الشعور بالراحة إلا إن تخلص منها. وعلى الرغم من صغر الحصاة غالباً التي تلج إلى الحذاء وتتغلغل من دون رغبة الشخص، إلا أن هذا الجُرم الصغير قادر على فعل الأعاجيب، وإحالة نهار الفرد إلى كابوس، وكان حقاً ما قال القدماء: إن معظم النار من مستصغر الشرر.
واهمٌ من يظن أن الوطن اليوم بخير وأنه يسير بشكل حسن، ففي حذاء الوطن الكثير من الحصى، بينما في الأوضاع الطبيعية الحصاة الواحدة تكون مزعجة في الحذاء، تنكد على الماشي مشيه، وربما تعيقه عن المضي في سبيله، وهذا ما يتطلب أحياناً التوقف لتنظيف الحذاء عمّا علق به، سيسير الإنسان بعدها ببقايا الألم، ولكن جسمه سيباشر في التداوي حتى تزول.
ربما كانت فرصة وجود لجنة مستقلة لتقصي الحقائق واحدة من الفرص النادرة، وسانحة لن تتكرر كما يرى الكثير من المتابعين، ولكنها كانت تشير إلى وجود الحصيّات في حذاء الوطن، وأوصت بإزالتها. حسنٌ، هناك من لم يرضه ما ورد في التقرير، فقد كان يشعر أن القضية أكبر مما تمت الإشارة إليها، وأعمق وأكثر إيلاماً، ولكن في جميع الأحوال فإن الرضا عن بقاء الحصى في الحذاء لا يعدو ألم مستمر، وتوقف عن الحركة حتى ينال هذا الطرف أو ذاك ما يراه حق له، وإنْ لبس لبوس المطالبات الوطنية.
من دون تقرير يحدد مسؤولية كل طرف عما حدث أساساً في الشهر الممتد من منتصف فبراير وحتى منتصف مارس الماضيين، يمكن القول وبشيء غير قليل من العفوية والبساطة أيضاً، إن الدم الذي سال والأرواح التي أزهقت: حصاة. اختلال الطبابة في تلك الفترة: حصاة. قضية الأطباء: حصاة، ما حدث في المدارس والجامعات والطلبة والأكاديميين: حصاة. ما أصاب الاقتصاد البحريني المتعكز أساساً: حصاة. الذهاب إلى قانون السلامة الوطنية: حصاة. سخونة وسائل التواصل الاجتماعي بشكل غير رشيد: حصاة. تعامل الإعلام الرسمي في الأزمة ومعها: حصاة. المفصولون والموقوفون: حصاة. الفارّون: حصاة. رخاوة الجدران وثقوبها التي جلبت علينا التركيز العالمي في السيء من الأمور: حصاة. الكلفة الاقتصادية الضخمة سواء التي أحدثتها الحركة، أو التي نتجت عن فصل عدد من الموظفين وتوظيف غيرهم، وإرجاع المفصولين إلى أماكن عملهم التي جرى شغلها، وكذلك الكلفة الأمنية يومياً: حصاة. الانجرار الطائفي الكبير والاصطفاف الشنيع: حصاة… بالله عليكم، من ذا الذي يستطيع السير وفي حذائه كل هذا الكم من الحصى المتفاوت الأحجام، المدبب أغلبه، والقادر على إحداث النزيف المتواصل والمعطل لأي حركة؟!
إن تحديد مسؤوليات عما حدث، ومحاسبة البعض، والعفو عن البعض، وعزل البعض، وتغيير مواقع البعض، وسجن البعض، وإطلاق سراح البعض، سوف لن يحل المشكلة الأساسية التي تضيف تفاصيلها حصيّات جديدة إلى الحذاء، لأنها مسحات علاجية وليست علاجاً حقيقياً لما حدث، وما سيحدث، ولا يمكن أن تردّ أي طرف عن الإحساس بالمظلومية، وأن حقه لا يزال معلقاً. وما يحدث يومياً في الشارع كأن يراد له أن يستمر لتستمر الأزمة، ويعتاش منها من يعتاش على الأزمات والحروب والمصائب. فمن الواضح للرائي أن التأجيج يأتي عبر المستفيدين فقط من إشغال الشارع وإشعاله، ومكابدات الكر والفر، حتى تظل الحاجة قائمة إليهم لبسط سيطرتهم على المشروع الوطني، وتحويله إلى مزارع شخصية وفوائد ذاتية يعبّون منها ما يعبّون، وبالسرعة الممكنة ما دامت هناك بقية أموال لا تزال تنتظر من يقوم بتوجيهها لصالحه ولمشاريعه الخاصة وأجنداته التي لم تعد خافية على أحد.
إننا في كل هذا الأمر ننسجم أساساً مع ما نريد ونشتهي تصديقه من القصص والأعذار، وهذا ما سيظل يعطل أي اتفاق مشترك بين الأطراف بالتوقف الطوعي عند نقطة ما، نأخذ نفساً عميقاً، نلتفت إلى ما خلفناه من دمار وخراب على كل المستويات، لنقرر بعدها أنه يكفي ما كفى، وأن نجلس لننزع من أرجل وطننا حذاءه، نُخليه من كل ما يزعج ويعيق لعله من بعدها سيكون قادراً على السير من جديد، وبشكل متوازن، وبخط مستقيم ومتصاعد.
جريدة البلاد:الإثنين12ديسمبر2011 .العدد1154