يعقوب سيادي
في الدول التي تحكمها السلطات التي ينتخبها الشعب، يمارس الناس بشكل طبيعي -دون وجل أو تردد أو خشية- تبادل الآراء، التي يعتقد كل فرد أو جماعة بصحتها وجدواها، في مناظرات متكررة في كامل المكان والزمان. يقارعون فيها الحجة بالحجة، والاستنتاج بالاستنتاج، والمعلومة بالمعلومة، ليتم للمتحاورين والمتابعين، استخلاص الفكرة الأصح والأشمل، التي يجتمع عليها الجمع. وفي الوقت ذاته، يبقى للآخرين احترام رأيهم عند الغالبية المجتمعة، ولا تقف سلطات تلك الدول للناس بالمرصاد، من خلال التحقيقات الجنائية والإحالة إلى النيابة، ومنها إلى المحاكم، واستصدار الأحكام القضائية، بما يمنع أو يعوِّق التعبير عن الرأي، مع إفلات من يدعم مصلحة السلطات، وكذلك بإفلات من ينال بالسوء معارضي السلطات، فتتمدد الممنوعات الرسمية، لتمنع على الناس، التعبير عن الآلام والعوز والفاقة، وانتقاد الممارسات الهادمة للوطن، والمعوِّقة لحقوق المواطنين، ورفع المطالب الجماعية، التي ينال خير صوابها الجميع، بالمساواة دون التفرقة والتمييز.
ففي صواب تلك الممارسة من التعبير عن الرأي والمطالبات، خيرٌ للناس وصلاحٌ للسلطات، فالرقابة الشعبية على أداء السلطات، هي المحددات لحسن أدائها، وصونٌ لها من الأخطاء التي ترتكبها.
ولكن… حين يتم استخدام القوة الجبرية لإسكات المواطنين عن المطالبات، فلا غرابة في خروج محسوبين عليها، عابثين بأمن المواطنين وعابثات، ومتملقين ومتملقات، من الكاذبين والكاذبات، وليس بعيداً في الذاكرة، دموع تلك المرأة التي استجدت السلطات وعبر التلفزيون الرسمي، تسبقها دموع التماسيح من عيني مقدم البرنامج، للتحريض على الناس، وكأن السلطة لم تكن بحاجةٍ إلا لتلك الدموع، من تلك المرأة، للإستجابة لحماية طائفة، تلك المرأة محسوبة عليها، من ضرّ الطائفة الأخرى.
وليس بعيداً في الذاكرة ذاك النائب الفرِح بلقب سعادة النائب، الراقص بالسيف والقول الصفيق، للتعدي على عرض طائفة، من على منبر الدين والمسجد، في ظل المنع على عوائل ضحايا الوطن والمعتقلين والمُجَوَّعين بالفصل من الأعمال، والجرحى، والمنع على متخطّي الطائفية بإيمانهم بالمواطنة، المنع على كل هؤلاء وآخرين التعبير عن الرأي ورفع المطالب، ومن لم يستجب منهم بالركون إلى الصمت، فبانتظاره قبل السجن الغازات السامة.
فتظل الأزمة ممتدة لعامها الرابع، بينما ينتظر فريقٌ أن يُغَيِّب القتل، ويُعوّق الجرح وتحوي السجون، جميع المطالبين بالحرية والديمقراطية، التي أضحت هي الحل البديل الوحيد والناجح، لانتقال البلد إلى ضفة الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، للقانعين بالعدالة والمساواة من المواطنين، فيمتد عمر الأزمة، نتيجة آمال وأعمال المرضى من الطفيليين، المعتاشين على سرقة المال العام، على غير وجه الحق. وتظل هذه الفئة المنتفعة تنعق كالبوم شؤماً، تود لو احترق أخضر الوطن ويابسه، مقابل أن تتنعم هي وحدها بخيرات الوطن، على حساب حرمان المواطنين الآخرين.
فتخرج علينا الغريبة على الوطن والمواطنين، من حيث أنها وإخوة لها تعددوا، لا هم لهم إلا التفخيخ لاصطياد ونشر، كل ما يُطرب دافعي الأجر، المرتبط بما في النفوس من غلٍ على المنادين بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية. ومن حيث أنها لا ترى إلا بعين واحدة، ولا تسمع إلا بأذن واحدة، ثم تقسم بأغلظ الإيمان، أنه ليس واقعاً إلا ما رأت وما سمعت، وتبدأ بإسقاط كل مساوئها، التي تعلم أنها مساوئ، وتجد ذاتها صغيرةً أمام الآخرين، ولكن من شبّ على أمر شاب عليه، وإلا فبالله عليكم، ألم ترى وتسمع، عن أكثر من مئة وخمسين مواطناً، منهم من قضى نحبه تحت التعذيب في السجون، وآلاف المعتقلين.
ألم تسمع عن الاعتداءات المصوّرة على المحلات التجارية، أم أن طائفيتها المقيتة أعمتها وأصَمَّتها، عن توصيات تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، «لجنة بسيوني»، وعن قرارات وتوصيات مفوضية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعن ما تنشره الصحافة العالمية، وما تعرضه ساحات التواصل الاجتماعي، من سحب الغازات السامة التي تغطي مناطق معينة، وما يلحق بها من إصابات، لتسيء من ورائها إلى البحرين الوطن، في المس بنسمة الحرية الصحافية، التي تؤلمها.
هكذا يفهم المارقون، حرية الرأي والتعبير، على أنها الحرية المطلقة، والسفيهة أغلب الأحيان، ومن دون قيود، لقول وفعل أي شيء، وليس لديهم المصداقية ولا الأخلاق والقيم الإنسانية العامة، لتوخي الحقائق، وإنما الكذب عندهم وسيلة تبررها الغاية، في كراهية الآخر، تماماً بمثل ما تفعله «داعش» فعل اليد .