د. علي محمد فخرو
منذ ثلاثين سنة ألقيت محاضرة بعنوان: «الثوابت أمام الردّة في الخليج العربي». كانت المناسبة هي تصاعد كتابات وأصوات البعض بشأن تخلّيهم عن هويّتهم العروبية، واستهزائهم بشعار الوحدة العربية، وانكفاء التزاماتهم تجاه الدولة الوطنية القطرية، وليس وطنهم العربي الكبير، وذلك بسبب كارثة قرار احتلال دولة الكويت المفجع من قبل نظام الحكم في العراق الشقيق، ومساندة ذلك القرار من قبل جهات عربية عدّة.
في تلك المحاضرة جادلت بأن هوية الأمة وثوابتها يجب ألا تتعرض للاهتزاز والتراجع عنها بسبب أخطاء أو جنون هذا النظام العربي أو ذاك الحاكم. وبينت مماثلة ذلك التراجع عن الثوابت بالردّة عن دين الإسلام من قبل بعض الأفراد الأنانيين والقبائل الطامعة، وذلك بسبب الهرج والمرج الذي تفجّر في الجزيرة العربية بعد موت الرسول، صلى الله عليه وسلم، مباشرة.
ظننت في حينه أن ما حدث من تراجع الثوابت كان حدثاً عابراً سينتهي بعد أن تهدأ النفوس، ويعود التوازن إلى العقل والضمير.
لكن تبيّن لي أن التراجع عن الثوابت، أي ممارسة الردّة عن العقائد والالتزامات السابقة، بسبب هزائم أو أزمات سياسية طارئة ومؤقتة، قد أصبح سلوكاً ذهنياً ونفسياً مبتذلاً عند بعض أفراد العرب، وخصوصاً بعض مثقفيهم، وعند بعض أنظمة الحكم العربية.
في السبعينات أدّت التراجعات والانتكاسات للمدّ القومي إلى ظهور ظاهرة الردّة تلك عند البعض، وفي التسعينات أدّت كارثة غزو الكويت إلى عودة تلك الظاهرة من جديد عند البعض، واليوم تؤدّي الخلافات والتدخلات والصراعات بين نظام الحكم في إيران والكثير من الأقطار العربية إلى تفجر تلك الظاهرة عند البعض، وبالأخص المفجع بالنسبة للتراجع عن ثوابت الصراع العربي الوجودي مع الكيان الاستعماري الاحتلالي الصهيوني في فلسطين المحتلة.
في جميع تلك المناسبات، وغيرها كثير، ينبري الانتهازيون وضعاف النفوس، بتناغم عجيب مع أعداء هذه الأمة، للنهش في ثوابت هوية هذه الأمة وآمالها في وحدتها ووحدة وطنها المجزأ المتكالب عليه من كل حدب وصوب. لا تقف حملات هؤلاء عند النقد، والمطالبة بتصحيح الأخطاء والخطايا، ومعاقبة المسؤولين، وإجراء مراجعات فكرية إن لزم الأمر، وإنما تقفز بصور عبثية مشبوهة إلى تدمير كل فكر والتزام ومشاعر عمل الكثيرون عبر عشرات السنين، على بنائها وبلورتها وإقناع جماهير الأمة بأهمية تبنّيهم لهذه الثوابت لإخراج الأمة من ضعفها وتخلفها الحضاري الحالي.
لكننا الآن أمام ردّات شاملة ومتشعبة ومتخفية وراء عدد من الأقنعة الكاذبة، كلُّ منها يظهر كلمات حق يراد بها باطل.
في السياسة هناك عند البعض تراجع عن التزامات الهوية العروبية المشتركة في تحديد أعداء الأمة المشتركين، والوقوف ضدّهم بصورة جمعية. هناك تراجع عن الاستقلال القومي والوطني، إذ يعود الاستعمار الظاهر والخفي إلى أرض العرب كاتفاقيات أمنية لمحاربة الإرهاب وقواعد عسكرية لحماية المصالح الخارجية وأطماعها. هناك ردّة لإضعاف وتقزيم الجامعة العربية، وتفكيك كل التكتلات العربية الإقليمية الفرعية في المغرب والخليج العربي.
هناك ارتداد نحو إعلاء الشأن الوطني القطري على كل المصالح القومية مهما تسبب ذلك في فواجع تمس العرب الآخرين. وانتقل ذلك إلى تمويل وتسليح وتدريب قوى الهمجية الجهادية التكفيرية.
في الاقتصاد هناك رفض تام لتقاسم الثروة، وإصرار على تفضيل متطلبات العولمة النيوليبرالية الرأسمالية على متطلبات الاقتصاد العربي المشترك، واستثمار الفوائض المالية لمصلحة الخارج على حساب الداخل. هناك التراجع عن أفكار خمسينات القرن الماضي بالنسبة للثروة البترولية وحق الشعوب فيها، والتي ضحّى من أجل تحقيقها الكثيرون، وجعلها ملكية وطنية، وذلك لمصلحة عودة الشركات الأجنبية بصورة متعاظمة لإدارة كل جوانب التنقيب والنقل والتسويق.
هناك التراجع نحو فتح فرص العمالة في بلاد العرب للأجانب غير العرب، وتفضيلها على العمالة الوطنية، باسم التنافسية والانفتاح الاقتصادي، بحيث تزداد أعداد العاطلين، وتصل نسبة البطالة إلى ثلاثين في المئة، أي نحو ثلاثة أضعاف النسبة المتوسطية العالمية. وأصبحت المجتمعات تدار كشركات خاصة، وليس كتكوينات بشرية لها خصائصها وهوياتها وحاجاتها الأساسية. اليوم تحتضر دولة الرعاية الاجتماعية العربية، وتنتعش دولة السوق والمديونيات والفساد والصعود المذهل لهيمنة المال على السياسة.
كل ما ناضلت من أجله الأجيال العربية السابقة، على المستويات الوطنية والقومية، تثار اليوم من حوله الشكوك في شكل ردات سياسية واقتصادية واجتماعية، لا تحكمها مبادئ ولا قيم ولا أخلاق ولا التزامات وطنية أو قومية أو إنسانية.
الأمل هي أن تكون حراكات الملايين، وبالأخص الشابات والشباب، في شوارع الوطن العربي هي الفصل الأول من حروب ردّة لن تتوقف حتى ننتهي من كل ظواهر وادعاءات أمثال مسيلمة الكذاب في طول وعرض بلاد العرب.
30/1-2020م
dramfakhro@gmail.co