عندما يواجه شعب ما باحتلال خارجي غاشم، كذلك الذي تعرض له أشقاؤنا في العراق، تصبح مهمة دحر الغزاة في سلم الأولويات المطلوبة من هذا الشعب، من أجل استعادة الإستقلال وتثبيت الهوية.. وتلك مهمة كفلتها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، وضمنها ميثاق هيئة الأمم المتحدة. ومن أجل تنفيذ هذه المهمة يصبح مشروعا استخدام كافة الوسائل والسبل، بدءا من ممارسة الضغط الشعبي، إلى العصيان المدني، وحتى المقاومة المسلحة، وتلك كلها، في حالة التعرض للغزو، تأتي في سياق حق الدفاع عن النفس، والكفاح من أجل ضمان حق تقرير المصير.
على أنه في كل الحالات، ينبغي التمييز بين الكفاح المتجه نحو غاية محددة هي دحر الإحتلال وتحقيق الإستقلال، وبين العمل العسكري الذي يتشبه بالفعل المقاوم، في حين تتجه بوصلته نحو خلق الفتنة والإحتراب الداخلي وتمزيق الوحدة الوطنية. هدف الإستقلال ذاته ليس مجرد استعادة للأرض، ولكنه تثبيت للحقوق واستعادة أيضا للحرية وللكرامة المهدورة. ومن هنا فإن أي استخدام للسلاح، في غير موضعه، ودون توجيهه للهدف الحقيقي، في هذه الحالة جيش الإحتلال والقوى التي تردفه وتقدم له الإسناد والدعم، لن تكون نتيجته إلا إحداث شرخ في البنية الوطنية العراقية.
استحضرت هذه الأفكار وأنا استمع لقناة الجزيرة الفضائية وهي تبث تسجيلا صوتيا لما يدعى بـ "أبو مصعب الزرقاوي"، وهو يحرض على قتل العراقيين، معرضا بانتماءاتهم الطائفية والإثنية، داعيا إلى الفتنة والإحتراب الداخلي. وكنت وما أزال أشكك في وجود هذه الشخصية الوهمية، وأعتبر وجودها اختراعا من ذات القوى التي دنست العراق وقامت باحتلاله. حيث أجد من الصعب علي، حتى هذه اللحظة، تصور وجود شخص عربي مسلم يمارس القتل لذاته، ودون وجود غاية نبيلة تتمثل في الإستجابة لمطالب الغالبية من الشعب. وحين يمارس القتل والتخريب، من منطلقات طائفية وإثنية، بغض النظر عن الأطراف التي تمارس القتل، فإن المستفيد الوحيد هي القوى التي تضمر الشر للأمة وتسعى لتركيعها، وخلق المزيد من التمزق في بنيانها.
أفهم أن تقاتل مجموعة ما قوات الإحتلال، وأن ترفع ما تشاء من الشعارات التي ترتبط بمنهجها ورؤيتها للكون، بل واعتبر ذلك حقا ومطلبا وطنيا ينبغي إسناده، لكنني لا استوعب علاقة ذلك بقتل العراقيين لمجرد أنهم أتباع لهذا المذهب أو تلك الأقلية القومية، خاصة حين يشكل أتباع هذا المذهب، وتلك الأقلية القومية أكثر من الـ 70% من مكونات النسيج العراقي. وهكذا فإن الموقف الطبيعي هو إدانة كل الأطراف، التي تساند قوى الإحتلال، سواء تلك التي ترفع شعار مقاتلة الأمريكيين، ولكنها تقف في النتيجة في خندقهم، أو تلك التي ترفع شعار اجتثاث الوطنيين العراقيين والمقاومين الأبطال، وترسل ميليشياتها، من جماعات الدعوة وقوات بدر لتقتل المقاومين في الفلوجة والموصل وتكريت وبعقوبة، بل وفي النجف والعمارة أيضا. والنتيجة التي لا مراء فيها هي أن التخندق الطائفي، في أي موقع كان، هو دعم للإحتلال، وإسهام في تمزيق وحدة الوطن.
في المقابل، لم استطع تقبل فكرة إجراء انتخابات عراقية في ظل وجود قوات الإحتلال، كما لم أتمكن من استيعاب فكرة المقارنة بين إجراء الإنتخابات الفلسطينية تحت حراب الإحتلال الإسرائيلي، وإجراء الإنتخابات في العراق تحت الحراب الأمريكية. ذلك أن الإنتخابات ليست هدفا في ذاتها، إن لم تكن تعبيرا حقيقيا عن إرادة الناخب وتطلعاته. وفي الحالتين، فإن الهدف المنطقي للشعبين في فلسطين والعراق ينبغي أن يكون التخلص من الإحتلال ومطاياه وتحقيق الحرية والإستقلال.
ومع أنني لست معنيا هنا بالدفاع عن الإنتخابات الفلسطينية، بل وأقف معارضا للطريقة التي تمت بها، لكنني أتفهم الظروف التي جرت فيها. ولعلي استحضر في هذا الصدد مقالة الكاتب الفلسطيني، الصديق حمدان حمدان، تحت عنوان المماثلة بين انتخابات فلسطينية وعراقية تضليل، والتي نشرت في التجديد العربي قبل فترة وجيزة، والتي أجرى فيها مقارنة معمقة بين كلا الإنتخابين. فقد أشار الكاتب إلى "أن الإنتخابات الفلسطينية تجرى لأسباب موضوعية، على طريق الوسيلة لاداء هدف، اذ ليس في المنصب الفلسطيني – بجميع القياسات- ما يبعث على الإغراء، اما الدولة العراقية، فهي مكمن الإغراء والاكتناز الى المستقبل". كما أن الارض الفلسطينية محتلة منذ أكثر من ستة وخمسين عاما، في حين لا تتجاوز فترة الاحتلال للعراق سنة وتسعة اشهر، كذلك تتغاير طبيعة الاحتلال بين سابق اسرائيلي ولاحق امريكي بالقطع.
وهناك فارق آخر لا يقل أهمية له علاقة مباشرة بطبيعة المرشحين. ففي الحالة الفلسطينية، لم يتقدم للترشيح شخص واحد له علاقة مباشرة بقوى الإحتلال، بل إنهم جميعا يملكون سجلا ناصعا في التصدي البطولي للاحتلال. ومن النادر الا تجد فيهم، منفيا مشردا او سجينا. ومن النادر أيضا أن تجد بينهم من ليس في عائلته أو أقاربه شهيد، قضى مصرعه بسبب الإحتلال. وجميعهم يطالبون بالطرد الفوري للصهاينة عن أرض فلسطين، ولا يطالبون ببقاء قوات المحتل تحت ذريعة الظن باحتمال نشوب حرب أهلية بعد رحيله. ولم يسبق لفلسطيني واحد التهليل للعدوان، واعتباره تحريرا. كما لم يعتبر أحد من الفلسطينيين احتلال القدس الشريف يوما وطنيا، بخلاف موقف أعضاء المجلس الإنتقالي المعين من قبل الأمريكيين الذين اعتبروا يوم سقوط بغداد عيدا وطنيا. والذين تتصدر أسماؤهم القوائم المرشحة للنجاح في الإنتخابات المقرر لها أن تجري نهاية هذا الشهر، وهي ذات الأسماء التي اطلت برأسها تحت الخوذة الامريكية، مع الاحتلال وفوق دباباته.
وفي حين اشترطت الإدارة الأمريكية موافقة الحكومة الجديدة "المنتخبة" لكي ترحل قواتها من العراق، لعلمها بكامل التركيبة المقبلة لأطقم التشريع والتنفيذ فيه، فإن هناك استحالة لأن تمنح إسرائيل الحكومة الفلسطينية المنتخبة مثل هذه "الصلاحية". وهنا يتساءل الأستاذ حمدان: لماذا لا يطلب شارون من عباس، تقديم طلب الرحيل، مثلما تطلبه امريكا من رئيس حكومة العراق المقبل؟! فالفارق بين فرض الشرط في العراق.. ورفضه في فلسطين، هو الفارق ذاته، بين جواب فلسطيني جاهز، وآخر يدور في لعبة تحريك البيادق فوق رقعة شطرنج لاعبها الرئيسي هو الإدارة الأمريكية.
في فلسطين أيضا لا يوجد قانون انتخابات صادر بأمر الحاكم بريمر رقم 96 تاريخ 4/6/2004، كما لا توجد مفوضية مشرفة على الانتخابات، شكلت مع تسمية اعضائها بأمر الحاكم بريمر رقم 92 تاريخ 4/5/2004 ، وهو ما يغطي مساحات احتلالية واسعة في مفهوم رد السيادة للعراقيين، فبريمر هو الذي اختار مجلس الحكم المؤقت، وهو الذي عين الوزارة المؤقتة، وكافة الأطقم الرئيسية في الدولة. اما في فلسطين، فلا توجد مثل هذه الكنوز، فقد آثر الاحتلال الاسرائيلي ان يبقى مباشرا دون توسيط، ومعنى ذلك ان المجابهة ظلت قائمة بين طرفين متصارعين بمعنى التضاد المانوي، بعيدا عن الفتاوى في التقرب والتوسط، اذ لا تكاد ترى فلسطينيا واحدا، يفتي بعدم القدرة على تأدية فريضة جهاد الدفع، كما لا ترى فلسطينيا واحدا، يفتي بأحادية المخرج في المفاوضات السلمية لانهاء واقع الاحتلال.
وفي إشارة ذكية وواعية يشير الأستاذ حمدان إلى أن دعاة التفاوض المسالم في العراق، لا يأتون على ذكر المقاومة من اي نوع، لا بالحجر ولا البندقية، وبالعكس تماما، فان التعامل الخفي مع جيش الاحتلال، يمضي في ايجابية الشراكة حتى في القتال، لا ضد النجف والفلوجة والموصل فحسب، بل ضد اية محافظة تستيقظ كرامتها، او تصدر عنها اشارات مقاومة وطنية. ولعلنا لسنا بحاجة الى التذكير، بأن الصفوف الامامية التي قاتلت في النجف والموصل والعمارة والفلوجة، كانت من قوات زعماء القوائم الانتخابية التي ستحكم العراق بعد الانتخابات، وهي معروفة عند العراقيين جميعا، مهما تبرقعت، وغيرت من أزيائها.
ان أي حديث جاد عن مستقبل مشرق للعراق ينبغي أن يأخذ بعين الإعتبار مجمل هذه الحقائق. ينبغي أن يتصدى المقاومون الحقيقيون بجرأة وشجاعة لعناصر التخريب، وأن يجري تعريتهم باعتبارهم جيشا احتياطيا لقوى الإحتلال، وينبغي التأكيد على أن قوة العراق هي في وحدته، ووقوف أبنائه، بكافة طوائفهم وأديانهم وانتماءاتهم الإثنية وتوجهاتهم السياسية صفا واحد خلف برنامج المقاومة الهادف إلى طرد المحتل، وإقامة نظام ديمقراطي تقدمي تشارك فيه كل القوى الوطنية التي وقفت باستبسال وصلابة في وجه الإحتلال وتصدت لجيوشه بشجاعة. إن عملية تكفير غالبية المجتمع لن تجر إلا إلى المزيد من التشرذم والتشظي. وبالمقابل، ينبغي التصدي حتى النفس الأخير، لمحاولة العملاء والمأجورين المتمثلة في تهميش دور شرائح واسعة من أبناء الشعب، في العملية السياسية في محاولة يائسة لخلق حالة من التشاحن والتطاحن والصراع، بما يسهم في تكريس واقع الإحتلال.
لقد أثبت العراقيون، عبر تاريخهم الطويل، وفي مقدمتهم الشيعة والأكراد، حرصهم على وحدتهم الوطنية، ومن خلال هذه الوحدة امتزجت دماءهم في ثورة العشرين، وفي ثورة مايس عام 1943، وفي وثبة كانون، وفي مجمل الحروب التي خاضها الجيش العراقي دفاعا عن الأمة واستقلالها، بما في ذلك المعارك العربية الرئيسية التي تصدى فيها الجيش العراقي الباسل للكيان الصهيوني. وبهذه الوحدة تمكن العراقيون من تحطيم حلف بغداد وطرد البريطانيين من قاعدتي الحبانية والشعيبة، والقضاء على نظام الوصاية وانتزاع الإستقلال، وأخذ مكانهم اللائق ببن الشعوب.
فلتكن لحظة المصير.. لحظة اليقظة والتنبه إلى الفتن والدسائس، لا بد من تجنب خلط الأوراق وأن تتوجه كل الجهود الوطنية نحو دحر الإحتلال ورموزه، لكي يعود العراق إلى مكانه الطبيعي، بلدا فاعلا في نصرة الحق العربي بفلسطين، وعاملا من عوامل التحدي والصمود وقيادة مشروع النهضة.