جمهورية الموز.. بلا موز وبلد النخيل بلا نخيل
بقلم مكي حسن
من المعروف ان السودان "سلة غذاء العالم العربي" لما فيه من الثروات الزراعية والحيوانية الهائلة، مساحات عذراء، كما خلقها ربنا، لاتزال تحتاج الى مال يستثمرها وسواعد تعمرها.
ويا للغرابة، المال موجود خارج السودان (عند العربان)، فيما بقيت السواعد السودانية تنتظر فرصة النخوة العربية، ولو ببعض من المال!
وفي سجال بين مواطنين سودانيين في "المطعم السوداني" بالمنامة، كنت مستمعا ومحاورا لما جرى من نقاش، حيث شاءت المصادفة أن يكون الطرف الأول (مواطن سوداني) قادما توا من السودان (افرش)، جاء البحرين لزيارة ابنه وسيعود خلال أيام.
وكان الطرف الثاني (سوداني) لم ير السودان منذ فترة طويلة بحكم ظروف العمل، إلا أن السودان ظل ومازال حيا في ذاكرته وحاضرا أمام عينيه، في صباحه ومسائه، شاخصا أمامه بذكرياته، وبهمومه، وبحروبه وبجنوبه وبدارفوره.
عرفت من حديث الطرف الأول أن السودان لم يعد كما كان في الخمسينيات والستينيات، فلقد ارتفعت الأسعار، وارتفعت البنايات، وزاد الزحف على المدن، واختفت ملايين الدولارات من المساعدات، ومازالت القبلية والسياسة الذاتية تفرقان الإخوة وأبناء الوطن.
تأوه الاثنان حين قال الأول للثاني: تصور أننا في السودان "جمهورية الموز"، بقينا نستورد الموز من أرتيريا، وكنا نصدر لها أيام زمان، فزع صاحبي (الطرف الثاني) من هول هذا الخبر، قائلا: يا للمصيبة، وقال: هل هذا معقول يا زول (رجل)؟
من شدة دهشته تساءل، وهو يرجع ظهره على الكرسي الى الخلف، ومزيحا نظارته عن عينيه، ومشبكا أصابع يديه من هول الخبر وصعقه لاذن سامعه، محاولا استذكار تلك اللحظات والأيام الجميلة التي رحلت، ورحل أهلها وراح يعدد أسماءهم ومناصبهم وراح يفرك أصابع يده أعلى وأسفل، كأن مسحة (هفة) من البرد قد لامست جسمه النحيل، وكان في تلك اللحظة أشبه بماكينة نقد تعد النقد عدا.
وفي الحقيقة هذا الخبر أوجد حالة من الصمت فصعق (الطرف الثاني) وصعقني معه.. وصدق من قال: بعض اللحظات تحتاج الى الصمت للتعبير عنها.
كان الصمت أفضل تعبير، لكنه لم يدم طويلا حيث أفاق كل منا من دهشته، إذ كيف تبور الأرض التي لو أعطيت الفرصة في تنمية أراضيها وتطوير محاصيلها الزراعية لكنا في ألف خير، نأكل منتجات تازة (إفرش) وبسعر أقل.
وكم كنت أتمنى لو أن محدثنا (الطرف الأول) ذكر أرقاما تدعم كلامه، لم يذكر أرقاما حول منتجات السودان من الموز وحجم تراجعها عاما وراء آخر.. لكنه ذكر أن السبب الرئيسي لهذين التحول والتراجع في زراعة الموز، هو توجه المزارعين الى زراعة البطاطا بدلا من الموز لأن التربة الزراعية تعمر أطول ولا تخرب في حالات الفيضانات المستمرة على هذه المناطق، بينما تموت أشجار الموز بسرعة من جراء الفيضانات.
بالإضافة الى ان البطاطا يمكن تخزينها ونقلها الى مسافات طويلة، بينما قابلية البقاء في حالة صالحة بالنسبة الى الموز لا تتعدى أياما تعد على الأصابع، عدا الفارق في سعري البطاطا والموز، وتيقنت ان الفلاح السوداني يصعب لومه في هذا الخصوص طالما المسألة تتعلق بزيادة الدخل.
هذا الحديث دفعني الى البحث وتتبع الموضوع، فدخلت على بعض المواقع ووجدت أن ولاية الجزيرة في السودان تتصدر ولايات السودان في مجال الإنتاج الزراعي، وان إنتاجية الموز في السودان تعتبر من أعلى الإنتاجيات في العالم.
فقلت لنفسي: هل هذا معقول؟ إذ ان هذه المعلومات تناقض ما دار من نقاش، لكني لاحظت ان هذه الإحصائية يعود تاريخها الى عام 1975 وضمن تقرير صادر عن منظمة الزراعة والأغذية الدولية، أي أن التقرير يتحدث عن مرحلة مضى عليها 34 سنة.
وفي شغف أكثر لمعرفة المزيد عن الموز وإنتاجيته في الوطن العربي، وجدت ان اليمن يتصدر الدول العربية المنتجة للموز خلال الـ 5 السنوات الماضية.
كما جاء في الإحصائية ان المساحة المزروعة (للموز) باليمن بلغت 120 ألف طن عام 2007، بمحافظات الحديدة وأبين وذكار، وان القيمة الإنتاجية للموز ارتفعت من 5 مليارات و685 مليون ريال الى 6 مليارات و322 مليون ريال والى 7 مليارات و510 ملايين ريال في السنوات القليلة الماضية.
واسمحوا لنا بأن نعرج قليلا على إنتاجية الموز على الصعيد العالمي، فتظل الهند اكبر مصدر للموز في العالم بإنتاجية 16 مليارا و800 مليون طن متري تليها البرازيل 6 مليارات و400 مليون طن متري ثم الصين 5 مليارات و800 مليون طن متري والكوادور 5 مليارات و800 مليون طن متري والفلبين 5 مليارات و8 ملايين طن متري.
وفي الختام ماذا نقول من صعق ولعق الخبر؟ قلت لصاحبي: لا تستغرب، فكل شيء في هذا العالم تبدل، وهذا حال الدنيا، ومثل ما عندكم في السودان، عندنا في البحرين، الشيء نفسه.
فقال لي كيف؟ فأوضحت له أن البحرين كانت تسمى زمان "بلد المليون نخلة"، فأين ذلك النخيل؟ وكنا "بلد الينابيع والعيون الحلوة"، فكيف تبخرت وجفت المياه؟ ولما كنا صغارا، نذهب الى الشواطئ، ونلعب على رمالها، ونصطاد السمك، ونسبح في مياه البحر، وكل ذلك أصبح ممنوعا في بلادنا إلا ما ندر من بضعة أمتار هنا وهناك.
أخيرا، اقتنع الرجل بكلامي، وما ذكرته من أمثلة، وابتسم قائلا: إذًا تساوى السودان مع البحرين في الموز والنخيل.. وضحكنا بعمق من غرابة التشابه حيث تعادل الموز السوداني مع النخيل البحريني.