اسماعيل أبو البندوره
المعاني الكبرى في ثورة 17 – 30 تموز التي قادها حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق عام 1968 تتمثل في أنها حملت مشروعاً وطنياً – قومياً في آن واحد، وقدمت رؤية جديدة في التغيير وممكناته وآفاقه ودلالاته، وفي بناء الدولة ببعدين وطني وقومي متسق، وفي التأسيس لأرضيات نهضوية تتعدى القطر وتصل إلى أعماق الأمة لاستنهاضها وتوحيدها حول رؤية وبرنامج قومي واحد متناسق التعابير والمضامين، وإعادة الحيوية لفكرة الانتماء القومي وللعروبة الجديدة التقدمية الناهضة المضادة للاستعمار ومشاريعه في المنطقة والساعية الى تحرير فلسطين وكل الأراضي العربية المحتلة.
وعليه فقد كانت ثورة تموز عام 1968 حدثاً تاريخياً نوعياً ونموذجياً يرتقي إلى مستوى المرحلة التاريخية والتحديات المختلفة التي تواجه العراق والأمة العربية ويؤسس لحقبة جديدة في التاريخ السياسي العربي بعناوين ومضامين واضحة ورؤى مغايرة للسائد وإرادة قوية في التصدي والتجاوز.
وجاءت ثورة تموز في حقبة إحباط وانتكاس عربية تمثلت بهزيمة حزيران عام 1967 وآثارها وتداعياتها السلبية والمدمرة، وبعد مؤامرة كبرى على الحزب عام 1966 في سوريا عنت في غاياتها تدمير وتشويه صورة الحزب وتفكيكه وشرذمته تحت عناوين وشعارات اليمين واليسار وإعاقته عن تحقيق واستكمال الأهداف التي طمح اليها وناضل من اجلها على الصعيد القومي، ولذا بدا وكأن ثورة تموز جاءت في أوانها التاريخي المطلوب لتكون ثورة تصحح مسارات الحزب وتعيد إليه الألق والأصالة والشرعية والمكانة التي حظي بها بين الجماهير العربية، ولكي تطرح المشروع القومي البديل في الرد على هزيمة حزيران ببناء مرتكزات القوة الرادعة وكل ممكنات المواجهة والانتصار.
لقد كانت هذه المهمات الكبرى لثورة تموز التي مثلت تحدياً لانبثاقها واستمرارها وصحة منطلقاتها وخياراتها هي التي أعطتها المكانة السابقة واللاحقة وهي التي ميزتها عن الانقلابات العسكرية السطحية الطامحة للوصول الى السلطة والاستئثار بممكناتها ولم تجعل السلطة المجردة هدفها وإنما حملت فكرة تجذير الدولة وبنائها على أسس مدنية حداثية عقلانية مواطنية لتكون نموذجا ليس في العراق وحده وإنما على صعيد الأمة ودول الاقليم والعالم وقطعت في هذا السبيل شوطاً متقدماً.
وكان من أبرز مميزات ثورة تموز من بين العديد من الخصائص والمميزات تطلعها لبناء الانسان العراقي والعربي واعتبارها ذلك الخطوة الرمزية والفعلية الاولى لبناء الدولة وعقلها المرتبط بالعصر ولذلك أطلقت العنان لكل الزهور أن تتفتح ولكل العقول أن تبدع ولكل الأيادي أن تفعل وتبني فكان الكتاب والمصنع والجامعة وكانت المسارح والثورة الثقافية العريضة والخطط التنموية الانفجارية، وجاء كل ذلك بعد تأميم النفط ووضع الثروة في خدمة الأهداف الكبرى للثورة، وانطلقت على إثر ذلك كل ألوان البناء والتنمية والإبداع والتطلع إلى المستقبل.
وطرحت الثورة على أرضية هذه التطلعات نمطاً من الثقافة السياسية التي غيرت المفاهيم والرؤى البالية واحتوت النزعات الانفصالية والطائفية والعصبيات التحتية وجمعت عقل الشعب ووحدّته على مرجعية قومية مغايرة للعصبيات الصغرى ونقيضة لها وفتحت الآفاق أمام الشعب ليكون مواطنا في دولة وطنية تطمح أن تكون نواة لدولة العرب القومية، فوسّعت بذلك المدارك وارتقت بالمواطن ليكون وطنياً – قومياً في آن وسياق واحد، وبهذه الثقافة السياسية الجمعية ذات الأبعاد والمعاني العميقة استطاعت أن تواجه الحملة الخمينية الحاقدة عام 1980 على العراق وأن توحد الشعب العراقي ضدها وأن تفشل أهدافها وغاياتها الاستعمارية.
كما أن هذه الثقافة السياسية القومية المتأصلة ذاتها والمتولده في اعماق ثورة تموز هي التي وحدت القوى الوطنية العراقية على تعدد مشاربها لتلبية نداء الحزب وقائده الشهيد المجيد لمواجهة العدوان الأمريكي – الصهيوني عام 2003 وهي التي ولدت المقاومة العراقية الباسلة وقادت إلى انتصارها الكاسح على المحتل وأعوانه وأفشلت مشروعه في العراق وعلى صعيد الأمة، وهي الثقافة السياسية العروبية النهضوية المضادة للمشروع الطائفي الايراني التي يحملها ويدافع عنها الحزب في المرحلة الراهنة في العراق ويحاول تعميمها في ظل ظروف صعبة وقاسية، بايحاءات وإيماءات واضحة أن ثورة تموز التي أطلقها حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1968 دائمة ومستمرة، ولم تكن في أي لحظة من لحظاتها مرحلية أو عابرة، وهي في النهاية مشروع وطني – قومي ورؤية وتجربة ستبقى نموذجا ارشاديا للعراق وللأمة العربية حتى تتحقق حريتها ووحدتها وانتصارها على أعدائها.