في مجالي الفكر والثقافة تبرز دائماً إشكالية يجري تداولها من وقت إلى آخر، ونعني بها إشكالية العلاقة بين السياسي والمثقف التي ترسم حدود مسؤولية المثقف تجاه وطنه وعلاقته بالسلطة الحاكمة وبالمجتمع على حد سواء، وتبرز هذه الاشكالية في واقعنا اليوم الذي يعاني فيه المجتمع العربي أزمة قيم مستفحلة تأثر بها سلباً كل نواحي الحياة ومنها الثقافة والمثقفين الذين هم اليوم أيضاً في مأزق كبير، وعندما تطرح هذه الإشكالية على بساط البحث غالباً ما نرى المثقف واقعاً بين «حدين« أو بين قطبي الرحى كما يقال:
أي بين السلطة وما تريده وتفعله بهذا المثقف ترهيباً أو ترغيباً، وبين المجتمع وما يتطلبه من موقف مساند متعاطف مع مطالبه ومصالحه، وتتضح حدة هذه الإشكالية عندما نلحظ «حالة« المثقف التي لا يحسد عليها ووقوعه بين «حدي« اتهامين: الأول اتهامه «بموالاة« السلطة والتقرب منها بصورة انتهازية لتأمين مصالحه الخاصة والثاني اتهامه «بموالاة« المجتمع بطريقة عمياء تجعله ضعيفاً وعاجزاً عن توجيه أي نقد أو لوم لهذا المجتمع حتى مع وجود خطأ أو سلوك يستوجب النقد. قد تختلف النظرة أو التقييم لهذه الإشكالية عند المعنيين بها من العاملين في الساحتين الثقافية والفكرية، ولكن المؤكد أن كل هؤلاء متفقون على أن «قاعدة الفكر« هي التي تلعب الدور الأساسي المحوري في تشكيل وإعادة تشكيل الحياة السياسية الاجتماعية في أي مجتمع أو دولة، بمعنى أن كل فرد أو صاحب رأي يريد أن يعبر عن موقف تجاه قضية معينة سياسية كانت أو اجتماعية سوف ينطلق من «قاعدة فكرية« تسند ذلك الرأي أو الموقف، وغالباً ما ينظر إلى المثقف على أنه أكثر وعياً ومصداقية عندما تكون قاعدته الفكرية تمثل جزءاً أصيلاً (وليس دخيلاً) من الثقافة الأساسية عند أكثر الناس في المجتمع والوطن أو عند أكثر الناس في الأمة التي ينتسب إليها، ونقصد بها الثقافة التي ترسخ الولاء للوطن والأمة وتعزز قيم وثوابت الأمة وحقها في التحرر والوحدة والتقدم وسواء كان المثقف أستاذاً جامعياً أو صحفياً أو كاتباً أو كان عالم دين فالعبرة هنا ليست في درجة علمه أو وظيفته أو مركزه الاجتماعي، بل في موقفه الفكري وتوجهه الاجتماعي والسياسي وفيما إذا كان هذا الموقف يخدم هدف التوحد الوطني ووحدة النسيج الاجتماعي، أم أنه موقف يسهم في تخريب الوحدة الوطنية وتفكيكها؟ وتزداد أهمية هذه المواقف ووضوحها في فترات الاضطرابات السياسية و«صعود« العصبيات الطائفية والعرقية وتنامي الأخطار والتحديات الخارجية، حيث يبرز دور المثقف أو المفكر الذي يجب أن يأخذ صف المبادئ الداعمة للحق والعدالة والدفاع عن حرية وسيادة الوطن والأمة، فالمثقف هنا يمثل «وعي« الأمة و«عقلها« و«ضميرها« وهو يمثل طليعة التغيير الاجتماعي السياسي لذلك ليس من المقبول أو المعقول أن يصبح هذا «العقل« «منتجاً« لرؤى وأفكار تقود إلى تدمير الذات والهوية الوطنية وتحرض على الفتن، وتمزيق الوحدة الوطنية، أي منتجاً لأفكار مدمرة للقيم وتتعارض مع ثوابتنا وليس مقبولاً أن يتحول المثقف إلى «أداة خارجية« لتقطيع أوصال الوطن وتدعو إلى الاستسلام للأعداء والانحناء أمام ظلمهم وجبروتهم تحت شعارات زائفة ومخادعة عن «الحرية« وحقوق الإنسان، كذلك ليس مقبولا أن يتحول المتثقف إلى «بوق« دعائي لبعض الأفكار المنحرفة والفاسدة سياسياً واجتماعياً. نحن هنا لا نرفض الاختلاف ولا نسقط حق الآخر في الاجتهاد طالما ذلك يخدم أو يساعد على إنقاد الوطن والأمة من أزمتها والوصول بها إلى ما يحفظ ويصون حقوقها، ولا نرفض التباين في الرؤى والأفكار التي تتم تحت سقف الانتماء للوطن والدفاع عن ثوابته ومصالحه، ولكن ما نرفضه ولا نستطيع فهمه وقبوله ذلك الاجتهاد الضار الذي يزحف على عقول الناس ويسلبهم إرادتهم ويصادر كل ما لديهم من أمل في التغيير وفرض «الوصاية الأبدية« عليهم، تحت حجج وذرائع دينية أو طائفية أو بدوافع سياسية تتحرك على أرضية لا علاقة لها بمصلحة الوطن وهموم الناس الحقيقية، بل تستجيب لإرادة معادية تحركها دوافع استغلالية لإبقاء الأمة العربية ضعيفة وفاقدة القدرة على تجديد الذات والنهوض في الاتجاه الصحيح. نقول ذلك ونحن على قناعة تامة بأن المجتمعات أو الأوطان التي تتعرض إلى هزات سياسية أو اجتماعية تحتاج إلى مثقف مدرك واع وقادر على تحويل وعيه إلى قرار وموقف وسلوك يتجاوز نظرته الضيقة ومنفعته الشخصية أو الحزبية أو الطائفية إلى مصالح الوطن بأكمله والابتعاد عن «المتاجرة« بعذابات الناس وامتهان «المزايدات« التي تخدر المواطنين وتحبسهم في «أقفاص« الخوف والتبعية و«الولاء الأعمى«. ان هذه النماذج من المثقفين لا يماثلهم ويتفوق عليهم سوى أولئك «المثقفين« من أدعياء «الديمقراطية« والحداثة الزائفة الذين يمثلون الوجه الآخر من الصورة البائسة في الواقع السياسي الثقافي في مجتمعاتنا العربية، فهذا الواقع يعاني تقاطع أو تداخل مواقف وأفكار هؤلاء الذين اعتادوا التخفي وراء خطابات تضليلية مخادعة مع أولئك المهووسين بمرض الطائفية الذين اعتادوا تبرير الانحرافات السياسية والفكرية فكل هؤلاء يروجون لأفكار تبدو في «ظاهرها« «عادلة« و«تقدمية« ولكنها في واقع الحال هي مغرقة في الجهل والتخلف و الظلامية. باختصار نحن هنا أمام منظومة فكرية وسياسية وثقافية منحرفة تعمل على غرس روح الهزيمة والاستسلام لإرادة الأعداء وتحاول كسر إرادة وظهور أجيالنا بالغفلة والتضليل وإبعادهم عن كل معاني الوطنية والقومية. ومن منا يريد أن يتعرف حجم مأساة هذه الأمة وما تكابده المجتمعات العربية من هذه «النماذج« المدمرة التي اعتادت النفخ في نار الفتن وتأجيج الصراعات الطائفية والعرقية فيها وإحداث ثغرات في جدران الأوطان خدمة للأعداء؟ من يرد ذلك فعليه أن يعي جداً واقع العراق وما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد من خراب ودمار بعد تدمير و«اجتثاث« الثقافة الوطنية القومية وسطوة ثقافة الطائفة والاستقواء بالغزاة والمحتلين والطامعين، ثقافة التطويع والتقسيم والإذلال التي تقوم بدور الطابور الخامس في زعزعة استقرار الوطن وضرب وحدته الوطنية وتخريب نسيجه الاجتماعي، إنها باختصار ثقافة لا شيء يمنعها أو يردعها عن بيع الوطن وتسليمه إلى المجهول والضياع. ومن المؤسف حقاً أن لهذه الثقافات سوقاً رائجة في هذا الزمن العربي الرديء الذي عمت فيه المفاسد والمظالم وراجت فيه سوق الاتجار بالكلمة والموقف وانعدمت في ظله كل القيم والمبادئ الرافضة لثقافة التخريب والتبعية والفكرية والسياسية لقوى التسلط والهيمنة، والداعية إلى مقاومة العدوان والانتصار لمبادئ العدالة وقيم الحق.