رغم أن الوقت لا يزال مبكرا، لتقديم قراءة دقيقة لما حدث، وتأثيراته المستقبلية على أوضاع تونس، سنحاول قدر ما هو مستطاع، استثمار ما برز على السطح من تطورات من أجل الغوص أكثر فأكثر إلى المفاعيل، التي كان لها الدور الحاسم في النتائج الدرامية، التي اتخذت مشهدا مفصليا في الرابع عشر من هذا الشهر، بمغادرة الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي نهائيا لسدة الحكم، وبروز مرحلة جديدة، يفترض فيها أن تكون مغايرة، في تاريخ تونس المعاصر.
أول ما يلفت النظر، أن تونس كانت حتى وقت قريب جدا، ضمن واحات السلام العربية، قياسا إلى الأوضاع المتوترة الآن في عدد كبير من البلدان العربية. وكانت التقارير الاقتصادية الصادرة عن منظمات دولية، تشير إلى انتعاش اقتصادي ونمو مطرد في دخل الفرد. وقد جاءت الأحداث الأخيرة لتكشف هشاشة تلك التقارير، وعدم دقة مضامينها.
إن ذلك يعيد بذاكرتنا، إلى المشهد الإيراني، قبل عدة شهور من قيام الجمهورية الإسلامية، في نهاية السبعينات من القرن المنصرم. فقبيل شهرين من هبة الشعب الإيراني، ضد شاه إيران، زار الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر العاصمة طهران، وأثناء لقائه بالشاه، ألقى خطابا "تاريخيا"، وصف فيه إيران بأنها واحة الأمن والاستقرار والسلام بمنطقة الشرق الأوسط. وبعد أسابيع قليلة من تلك الزيارة اندلعت الثورة الشعبية، في إيران بتحالف بين رجال الدين ومؤسسة البازار، وقد تواصلت تلك الهبة عدة شهور، سقط في نهايتها نظام الشاه، وتسلم الإمام الخميني سدة الحكم.
فالخطوة الأولى، على طريق التوترات الأخيرة، التي تحولت لاحقا إلى هبة شعبية، هي إقدام شاب جامعي، من منطقة سيدي بوزيد، عاطل عن العمل، على حرق نفسه، بعد أن قاده حظه العاثر لإن يصبح بائع خضار متجول، اصطدم برجال الأمن، بسبب القوانين البيروقراطية، التي تحرم على أمثاله الحصول على لقمة العيش. وكان هذا الحدث هو القشة التي أشعلت الانتفاضة الشعبية التي أودت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
النقطة الأخرى، الجديرة بالانتباه، هي أن الهبة، بالطريقة التي عبرت فيها عن نفسها، بدت عفوية وغير منظمة. وكان عمودها الفقري منذ البداية، حتى الأيام الأخيرة، هم الشبان الصغار. وأن دور الأحزاب السياسية، التي كانت محظورة عن العمل، بموجب القانون، حتى لحظة سقوط النظام، بقي هامشيا، رغم محاولات قادة هذه الأحزاب إبراز أنفسهم كقادة وموجهين، وكعناصر فاعلة في تقرير مستقبل قرار الشعب التونسي.
ذلك يعيدنا إلى مسألة مهمة في الفكر السياسي، عن أسباب الثورات الاجتماعية. هل هي فعلا نتاج غلبة الفاقة والجوع؟ أم أنها نتاج بروز قوى اجتماعية جديدة تجد في بقاء النظام القائم معوقا لمصالحها؟ أو هي نتاج لنضج سياسي أفقي، يشق طريقه إلى مختلف بنيات المجتمع، من قاعه إلى سفوحه؟. وهل يعني وجود هذه القوانين: الفاقة والجوع، وبروز القوى الاجتماعية المضادة للنظام، والوعي السياسي، حتمية التغيير، أم أن ذلك رهن لشروط موضوعية أخرى. بمعنى أنه لو انطبقت هذه الشروط على بلد آخر، هل يمكننا الجزم، دون حذر أن هذا البلد مقبل على ثورة مماثلة كتلك التي أخذت مكانها في تونس؟
الوقائع التاريخية، تجيب بالنفي. على معظم هذه الأسئلة. فليس يكفي أن يتوفر شرط أو أكثر، أو حتى هذه الشروط مجتمعة، ليتحقق انتقال نوعي، من مرحلة إلى أخرى، يتغير بموجبها النظام السياسي القائم. ولو كان الأمر كذلك، فإن المسطرة تشير إلى وجود عدد كبير من بلدان العالم، مرشحة الآن لتحولات مماثلة كتلك التي أخذت مكانها في تونس، وبضمنها بلدان عربية كثيرة. إن تيدا سكوكبول، تشير في كتابها عن الثورات الاجتماعية، أن العامل الحاسم في التغيرات الدراماتيكية، يعود إلى ردة فعل أجهزة الدولة ونوعية استجابتها على ما يواجهها من أحداث وتحديات. بمعنى آخر، إن مستوى مهارة أداء البناء الفوقي، في التعامل مع الأحداث العاصفة هو الذي يحدد النجاح أو الفشل في تثبيت الأمن وبعث الحياة لدعائم استقرار النظام.
أسئلة مشروعة، تتطلب منا إعمال الفكر، من أجل أن تكون قراءتنا أكثر دقة لما يجري من حولنا. وحين نعود إلى التجربة التونسية، تواجهنا مسألة آخرى، لا تقل وجاهة عن سابقتها. فالهبة الشعبية لم تستمر طويلا، والحسم جاء سريعا، بما يعيدنا إلى سكوكبول مرة آخرى. لماذا تتمكن أنظمة بوليسية للتصدي لشعبها، وتتمكن من قمع حركته، في حين تعجز أخرى؟. هنا يأتي الجواب، في حدث أخذ مكانه قبل يوم الحسم، في الثالث عشر من هذا الشهر، حين تصدى الجيش التونسي، لرجال الأمن وهم يعترضون بهراواتهم وأسلحتهم وقنابلهم المسيلة للدموع للمسيرات الشعبية. كان اصطدام الجيش بالمؤسسة الأمنية، يعني انفراط عقد الدولة. وأن نظام زين العابدين، لم يعد بمقدوره الاستناد على أجهزته في مواجهة الهبة الشعبية. وهكذا كان قراره المنطقي بالرحيل، بعد أن رأى بأم عينيه أن انهيار النظام أصبح محتما.
نحن إذا أمام لوحة، بدأت تفاصيلها تتضح أكثر فأكثر. هناك هبة شعبية، يقوم بها الشباب، وفراغ سياسي للأحزاب السياسية، بمعنى أن الهبة عفوية في تركيبتها، ولا تحمل مشروعا سياسيا. وهناك من جهة أخرى، صراع بدى جليا بين المؤسستين اللتين يفترض فيهما حماية الحكم، وبالتالي حماية الأمن والنظام في البلد. هذا الصراع يطرح مسألة أخرى جوهرية، حول المستقبل السياسي لتونس. هل كانت ردة فعل مؤسسة الجيش عفوية كما بدى على السطح؟ أم أنها بردة فعلها العنيفة تجاه مؤسسة الأمن كانت تضع اللبنات الأولى لاستلام الحكم لصالحها، باعتبارها المؤسسة التي تصدت للأمن أثناء قمعه للمتظاهرين، ودافعت عن الشعب، بحيث يبدو استلامها للسلطة في سياق موضوعي، ويقابل بالرضى والحماس الشعبي.
تطورات الأحداث في تونس تحمل أوجها مشابهة لما جرى في مصر في 23 يوليو عام 1952م. تحدث فوضى في مصر، وينشب حريق القاهرة، وينزل الناس إلى الشوارع. وتعلن حالة الطواريء، فيعلن الجيش، أولا عبر نادي الضباط، ولاحقا عبر تنظيم الضباط الأحرار عن انحيازه للشعب. ويقوم بانقلابه الذي ينصب فيه ابن الملك على العرش، ويكلف رئيس الوزراء، على ماهر، أحد رجالات البلاط الملكي برئاسة الحكومة، ثم ما تلبث الأمور أن تتكشف لاحقا، فيسطر الجيش بشكل كامل على البلاد، ويتولى إدارة الدولة والمجتمع، ويجري تحريم العمل الحزبي، وتشهد مصر تطورات عاصفة، وتحولات تاريخية استمرت عدة عقود، بقيادة المؤسسة العسكرية، التي أعلنت صيانتها لمصالح الشعب.
نحن هنا في تجربة تونس، أمام مشهد مماثل تقريبا، لما حدث في مصر، رغم أن السيناريو لا يزال في بدايته. لكن المقدمات تشي بالنتائج. فالجيش كما يبدو يدير التحولات السياسية في تونس من خلف حجاب شفاف. ورئيس الحكومة، الأستاذ الغنوشي، يؤلف حكومة، وزاراتها السيادية بيد أقطاب النظام السابق، والرفض الشعبي لهذه الخطوة يبدو منطقيا وطبيعيا، باعتبار أن التشكيل الجديد للحكومة لا ينبي بأن ثمة شيء جذري قد تغير. والجيش ينتظر اللحظة الحامسة، ليؤكد حضوره كقوة فاعلة وقادرة على تكنيس مخلفات الماضي، لكن لصالح هيمنة مؤسستها. والفراغ السياسي، الذي استمر أكثر من سبعة عقود يجعل هذه المؤسسة دون غيرها المهيأة للعب الدور الأساسي في صناعة التاريخ الجديد للجمهورية التونسية.
قراءة أولية، واللوحة لم تكتمل التفاصيل بعد، والمشهد لا يزال بحاجة إلى المزيد من التأصيل والتحليل في الحديث القادم بإذن الله تعالى.