أثارت صفقة تبادل الجندي “الإسرائيلي” جلعاد شاليت مقابل أكثر من ألف أسير فلسطيني جدلاً واسعاً بين صفوف الفلسطينيين، وكشفت عن تباينات في الرأي تعكس حالة الانقسام التي ما زالت قائمة والتي سلبت الفرحة بهذه الصفقة . فهناك من شكك في نوايا توقيت الصفقة، وقزم الموقف الفلسطيني وكأنه مباراة في الحصول على أكبر عدد من النقاط في اختبار الشعبية، وهناك من أعطاها درجة مقبول وكأننا في امتحانات التقدير في الجامعة . وعلى المستوى الشعبي تباينت الفرحة وهذا أمر طبيعي، فعائلات من أطلق أبناؤهم أكثر فرحة من غيرهم، وحتى الأسرى أنفسهم، فمن يطلق سراحه يكون أكثر فرحة من غيره، وهذه كلها عواطف وانفعالات بشرية لا تقلل من قيمة وأهمية الصفقة .
وعلى مدار الأيام القلية الماضية طرح أكثر من تساؤل عبر وسائل الإعلام المختلفة عربية وأجنبية، وكان مضمون التساؤلات يقول: هل أنت كمواطن عادي راضٍ عن هذه الصفقة، وكانت إجابتي التي عبرت عنها بالرضا تسبقها عدد من الملاحظات لا بد من الإشارة إليها، وأول هذه الملاحظات أنه لا يوجد اتفاق على أي مستوى يمكن أن يحظى بالرضا والقبول الكامل، فلا يوجد اتفاق مثالي وخصوصاً في اتفاقات تبادل الأسرى، وبين طرفين لا يعترف أي منهما بالآخر، بل ينظر إليه من منظور العداء . وإذا أردنا أن نتحدث عن معايير المثالية والقبول التام نريد اتفاقاً يتضمن إطلاق كل الأسرى الفلسطينيين القابعين في السجون “الإسرائيلية”، نراهم أحراراً حول أسرهم . ومن ذهب للتشكيك أو التقليل من قيمة الصفقة حجته أننا قبلنا بسياسة أو مبدأ الترحيل للمواطن الفلسطيني بالقبول بعدم احتضان الأرض الفلسطينية لأبنائها الأسرى ومغادرتهم خارج الأراضي الفلسطينية، وأعتقد أن في هذا اختزالاً غير صحيح، ومقارنة ظالمة، بل إن من يأخذ بهذا الرأي لديه نوايا مشككة . وهنا التساؤل كم عدد من سينطبق عليهم هذا القرار؟ وهل من الأفضل أن يبقى الأسير طوال حياته في السجن أم أن يخرج ويمارس حياته ويكون اتصاله بأهله وشعبه وأرضه أسهل بكثير مما هو في داخل السجن . والمناضلون لا تقيدهم أرض أو مسافات، فأرض النضال واسعة .
وفي كل الاتفاقات الدولية هناك قدر من التنازل، ويتفاوت هذا التنازل من طرف لآخر لكن المهم أن لا يصل إلى حد التخلي عن المبادئ الرئيسة، والمطالب الجوهرية، وهنا الخروج من السجون هو المطلب الجوهري، وفي مثل اتفاقات تبادل أسرى فإن المعايير التي تحكم هذه الصفقات تختلف عن الاتفاقات التي تعقد بين الدول في الظروف الاعتيادية، فمثل هذه الاتفاقات لا بد وأن تتضمن قدراً من التنازل، وإلا لن تتم . أضف إلى ذلك ما قيمة الجندي “الإسرائيلي” شاليت هل في موته أم في تبادله بأسرى فلسطينيين؟
أعود للتساؤل الثاني وهو لماذا هذا التوقيت بالذات؟ وهل من علاقة بين ذلك والذهاب إلى الأمم المتحدة؟ وهل الهدف هو تحويل الأنظار إلى غزة؟ الإجابة ببساطة أن عنصر المفاجأة هو في إعلان القرار، وليس في توقيته، فلقد سبق القرار مفاوضات شاقة وشائكة وساهم فيها الوسيط الألماني وتم التوصل خلالها إلى نقاط مشتركة يمكن البناء عليها في المستقبل، ولكن لم يحدث ذلك لقناعة حركة المقاومة حماس أنه يمكن الحصول على الكثير، اعتقاداً منها أنها في مركز قوي، أما الجديد بلا شك فهي التحولات العربية، والتغير في دور مصر، كل هذه التحولات لا بد وأن تمارس تأثيرها على القرار السياسي، فالتحولات قد لا تعمل لصالح الحركة بدرجة أو بأخرى، وهذا أمر طبيعي في كل القرارات السياسية حتى على مستوى الدول، لكن الأبرز في هذا التحول هو زيادة درجة المصداقية في الدور المصري، الذي يمكن أن ينعكس على مستقبل العلاقة مع حركة حماس . وفي الوقت ذاته الحكومة “الإسرائيلية” تواجه أزمات داخلية وعزلة دولية بعد ذهاب الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة .
هذه الوقائع لا بد وأن تأخذ في الاعتبار وخصوصاً من قبل حركة حماس المعنية أيضاً بالحصول على نافذة أوسع دولياً والاعتراف بها كفاعل فلسطيني له دوره وشرعيته .
وكل هذه العوامل لا تقلل من قيمة الصفقة وأهميتها من منطلق أن إطلاق أي أسير فلسطيني هو إنجاز في حد ذاته . وليس معيباً في أي قرار سياسي أن تكون له حسابات على مستوى الحركة وما تمر به من تحولات واستجابات لبيئة التفاوض الجديدة .
إن الاتفاق له أبعاده السياسية الأخرى التي ستنعكس إيجاباً على الوضع العام في غزة بشكل خاص، وحالة الحصار، وإن المرحلة المقبلة قد تشهد تحسناً ملحوظاً في اتجاه رفع بعض جوانب الحصار، كما أن الوضع العام على معبر رفح سيكون أفضل بكثير وهو تطلع شعبي لأبناء قطاع غزة، ولعل من المظاهر الإيجابية الاتصال الهاتفي على مستوى الرئاسة بين الرئيس محمود عباس وخالد مشعل هو مؤشر إيجابي قد يخدم هدف المصالحة مع توفر النوايا الصادقة .
الخليج الإماراتية : 18/10/2011م