خضوع محمود عباس لإملاءات القيادة الصهيونية هو تحصيل حاصل لمن يعرف ماهية السلطة الفلسطينية وقيادتها، فهو أمر لا يحتاج إلى تحليل، أما هبوط السقف السياسي لإدارة أوباما فيما يتعلق بملف "الشرق الأوسط"، وتحديداً في موضوعة ربط "عملية السلام" بسخافة "إيقاف الاستيطان كلياً"، فقد تم بطريقة وبسرعة تقلل داخلياً وخارجياً من شأن الإدارة الأميركية ومصداقيتها، وتكشف للقاصي والداني من هو صاحب القول الفصل في السياسة الخارجية الأميركية، حتى لو افترضنا أنه كان مجرد لعبة إعلامية لتحسين صورة الولايات المتحدة بين العرب والمسلمين.
وفي 10/9/2009 عرضت قناة فوكس الأميركية على موقعها على الإنترنت مقابلة خاصة مع عضو سابق في الكونغرس الأميركي هو جيمس ترافكانت James Traficant كان قبلها بأيام قد أتم سبع سنوات كاملة في السجن يقول إنها نتاج استهدافه من قبل اللوبي "الإسرائيلي" في الولايات المتحدة بسبب تبنيه لقضية عامل من ولاية أوهايو، التي انتخب ترافكانت ممثلاً عن بعضها إلى الكونغرس تسع مرات متتالية.
وكان ذلك العامل المتقاعد، واسمه جون ديميانيوك، قد اتهم بجرائم ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية وأدين بأنه كان "إيفان الرهيب" لكن ترافكانت تمكن من إطلاق سراحه مؤقتاً بعد إيراد دلائل على براءته قبل أن يعاد اعتقاله مرة ثانية، وتكراراً، خاصة بعد سجن ترافكانت.
المهم أن العضو السابق في الكونغرس ترافكانت قال في تلك المقابلة كلاماً صريحاً مفاده أن اللوبي "الإسرائيلي" يسيطر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، ويؤثر بالسياسة الداخلية. كما قال كثيراً من الأشياء الأخرى عن الوزن اليهودي في الإعلام والتجارة ومجلسي الشيوخ والنواب… إلخ وعن دور اللوبي "الإسرائيلي"، كما سماه، في إدخال الولايات المتحدة في حروب دموية أفلست الاقتصاد لمصلحة الكيان الصهيوني.
قضية دور اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة باتت تلفت نظر أقلية متزايدة من الأميركيين، لا ترافكانت الذي قضى سبع سنوات في السجن فحسب. أما بعد التقهقر المهين وغير المنظم لأوباما أمام نتنياهو، فحتى طه حسين أو الشيخ إمام أو أبو العلاء المعري كانوا سيرون ويقرون قبل المبصرين من أحياء الأمة اليوم أن وزن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لا يمكن أن نستمر بتجاهله بذريعة أن "الصهيونية هي امتداد للإمبريالية"، كما تعلمنا منذ الصغر، وأن "إسرائيل هي مجرد أداة للإمبريالية في الوطن العربي".
لو كانت الصهيونية مجرد ظاهرة احتلال فلسطين لما كانت بمثل هذه القوة في العواصم الأوروبية والأميركية الشمالية. وثمة احتلالات أخرى للأرض العربية، فارسية وتركية وحبشية وإسبانية مثلاً، واحتلالات أخرى حول العالم، لم تتمتع في كل التاريخ المعاصر بمثل هذه القوة والسطوة في عواصم الدول الإمبريالية.
نحن لا نقول إن الصهيونية تسيطر وحدها على العالم بمعزل عن ظاهرة الإمبريالية، ولا نقول إن الإمبريالية لم تكن لتتحلى بنزعات استعمارية أو عدوانية لولا الصهيونية، بل نقول إن الصهيونية ليست مشكلة فلسطين أو العرب فحسب، بل هي شكل من أشكال تجلي الإمبريالية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً في عصرنا الراهن.
فالصهيونية مندمجة عضوياً بالإمبريالية، والإمبريالية بالصهيونية، لا كأداة إحداهما للأخرى، بل كتوأمين سياميين ولدا غير منفصلين. ويصح هذا القول بالأخص على الإمبريالية في عصر رأس المال المالي، عصر الربح من الربا والمضاربة المالية والعمليات الخدماتية الطفيلية التي تدمر الصناعة والزراعة وكوكب الأرض وقواه المنتجة.
الصهيونية إذن لا تقوم بدور إقليمي في الوطن العربي فحسب، بل هي ظاهرة دولية أساساً، لأنها ترتبط سياسياً واقتصاديا وثقافياً بشبكات دولية تتقاطع عضوياً مع الشرائح الاجتماعية التي تحكم العالم، وهي ظاهرة بنيوية لأنها تلون كل النظام الرأسمالي العالمي بلون يهودي يقوم على الربح من العمليات غير الإنتاجية، فالصهيونية هي الإمبريالية في مرحلة التحلل.
أما مجاراة اللوبي اليهودي فلا تكون بشراء نفوذ في واشنطن كما يتخيل بعض السطحيين. وقد حاول الصينيون أن يؤسسوا لوبيا لهم في واشنطن، وحاول غيرهم، ونجح بعضهم جزئياً، لكن شتان ما بين لوبي منبثق من رحم بنية النظام الرأسمالي العالمي الاقتصادية الاجتماعية، ولوبي يتعلق بأهدابه بالترجي.
من هنا فإن فلسطين ليست مجرد احتلال محلي كأي احتلال أخر ﻠ27 ألف كيلومتر مربع أخرى من الأرض العربية من أصل 14 مليون كليومتر مربع هي مساحة الوطن العربي، وكذلك الجولان أو الباقورة أو شبعا، بل أن الصراع مع "إسرائيل" هو عقدة تناقض الأمة العربية مع الإمبريالية العالمية في مرحلتها اليهودية، وبهذا المعنى المجازي فإن حدود فلسطين تمتد من المحيط إلى الخليج.
أما خارج فلسطين، فاليهود ليسوا مجرد 15 مليوناً من أصل 6.7 مليار إنسان على هذا الكوكب، لأن الصهيونية مكون رئيسي للنظام الإمبريالي على مستويات متعددة، بنيوية وعقائدية وثقافية وسياسية، وبالتالي فإننا نلاحظ من فنزويلا إلى كوريا الشمالية، ومن أفريقيا جنوب الصحراء إلى روسيا، خاصة بعد زيارة نتنياهو إليها وقرار الإدارة الأميركية إزالة الدرع الصاروخي من بولندا والتشيك نزولاً عند رغبة نتنياهو من أجل تجنيد روسيا ضد النووي الإيراني، أن الصراع ضد الصهيونية لا ينفصل عن الصراع ضد الإمبريالية، والعكس بالعكس.
وفي ظل مثل هذا الترابط العضوي بين الإمبريالية والصهيونية، لا مفر من أن نقصف العصب العقائدي الحساس للقوة الصهيونية، وهو أساطير "المحرقة"، بقوة وبقسوة، دون أن نخاف من خسارة بعض "اليهود التقدميين" والمتمسحين بأذيالهم إذا أردنا على المدى البعيد أن نكسب عالماً بأسره.
النقطة الأساسية هنا هي أن معركة بهذا المستوى وهذه الأبعاد تحتاج إلى مواقف وبرامج أكثر جذرية ورؤى أوسع بكثير من أي شيء يتم تداوله حتى الآن من أجل "حل المشكلة الفلسطينية". فليس "إيقاف الاستيطان" وحده مشروعاً تافهاً، بل "الدولة الفلسطينية" نفسها، سواء كانت مؤقتة أو دائمة أو برعاية أوباما أو بدون رعايته.
وإذا كان أوباما صادقاً في تصوره أنه يستطيع أن يجعل الصهيونية مجرد أداة إقليمية للإمبريالية، فإنه يكون أكثر تفاهة من العرب والفلسطينيين الذين يظنون أن بإمكانهم أن يؤثروا على أوباما لكي يحول توجه الإمبريالية من الالتحام العضوي بالصهيونية إلى احتوائها.
علينا أن نفهم مرة واحدة وإلى الأبد أن هذا الصراع صراعٌ تناحري لا يحل إلا بالعنف. إن صراعاً من هذا النوع يحتاج إلى قيادات وبرامج ومواقف تذهب بالصراع إلى أقصى مداه. فكفانا عبثاً بمشاريع التعايش مع التواجد اليهودي في فلسطين، وكفانا هدراً لطاقتنا السياسية في مستنقعات برامج "الإنقاذ" أو "أفضل الممكن".
فالمطلوب أكثر من ذلك بكثير، إذ علينا أن نعمق وعينا بالترابط العضوي بين الإمبريالية والصهيونية في أذهاننا وأذهان شعوب الأرض، وهو ما يجعل ساحة المعركة السياسية ساحة عالمية، لا ساحة قومية أو إسلامية فحسب، حتى لو ظل الميدان الأساسي الذي تحسم فيه هو الوطن العربي، لأن خلاصنا بأيدينا وليس بيد أي حلفاء حقيقيين أو وهميين.
وقبل كل شيء، إن لم يكن لدينا وعي بجذرية المعركة، وإن لم نبلور برنامجنا وأداة تحررنا وخلاصنا على أرض الواقع بأنفسنا، فمن العبث أن ندعو "الشعوب الصديقة" لقضية لا نتفق نحن على ماهيتها وأهدافها.
فالعمل السياسي في مثل هذه المرحلة إما أن يكون عملاً لبناء هذه الأداة وهذا البرنامج الذي يرتقي لمستوى المرحلة، وإما أن يكون تسولاً سياسياً للفتات أو عملاً خيرياً لترقيع عورات المرحلة، وإما أن يكون سمسرة سياسة أو عمالة مفضوحة