يعقوب سيادي
في أي مجتمع، ترى الناس في عِدادٍ متفاوت، ما بين «قلة مأمومة»، بالأوامر من قبل السلطات، و«كثرةٍ مألومَة»، هم غالبية أفراد الشعب، والذين هم بدورهم ينقسمون إلى فئات أربع، الأولى «الفئة الخاملة»، هذه الفئة لا تُُحتسب في آليات التغيير والتطوير، وهي فئة تقتسم مع الآخرين، ما جهدوا في تحقيقه، أيا كان ذلك، فهي بذلك فئة تنام وتصحو على ما هو سائد، دون اعتبار منها للصحيح والخطأ، الحق والباطل، وهي صاحبة القرار بعدم المساهمة في التغيير والتطوير، وهي المتلقية للنتائج دون أي جهد لها، عدا أداء عملها الوظيفي واليومي المعتاد، وهي فئة يشكر لها الآخرون عدم نفعها وضرها، عبر موقف الحياد السلبي تجاه جميع الأطراف.
وثانيها «فئة الموالاة الذيلية»، وهي تلك الموهومة بأنها من المقربين الى السلطات، ووَهْم أنهم سينالون منها العطايا والمكارم، فهم ضعاف النفوس، يرضيهم الدينار والعَشرة والمئة، طالما لم ينلها «الرفيج» من جماعتهم، وهم بذلك يتباهون فيما بينهم، عقولهم غائبة، وفي حال حضورها مُغـَيَّبة، هذه الفئة الذيلية هي الصيد في شباك السلطات، ركضاً وراء الرضى والفتات، ثم تعمل فيهم السلطات على التصنيف وتوزيع الأدوار، ولكل دور ووظيفة ثمن، لتصطفي من بينهم نفراً، وتلهي باقيه في تفاهات متع الحياة العابثة، مع إبقاء التواصل وإياه، عبر الوكلاء والبذل له ما يسره دون الإشباع، لضمان الاستعباد. وتستخدم السلطات في ذلك، وسيلة الإيهام بكيس المال، يراه الذيلي في يد الموالاة الريموت، فيسيل لعابه لهثاً وهرولة للخنوع والاستعباد، لعله يلحق بركبهم وينال كيساً.
ترى هؤلاء، تحتويهم السلطات، في المدارس والجامعات والمؤسسات الشبابية والرياضية، من الأندية ومؤسسات المجتمع المدني الدائرة في فلك السلطات، عبر ازدواج الخدمات المعلنة والمستورة، وتوظف كبيراً لهم، ممن يتبدى عطوفاً مُعِيناً، وفي الوقت ذاته هو سامي المقام، «يُخَرِّع»، هذه المعادلة تنجح في خلق ذاك الجيل الخنوع، إلا أن هناك من يخرج على محاولات إخضاعه، الى الحرية والكرامة، لتقوده خبرته الحياتية الى مناصرة الحق والعدل.
وثالثها «فئة الموالاة المختارة»، تلك التي تُخضعها السلطات لعمليات غسل الدماغ، ليسهل عليها تشويه الحقائق، وممارسة كل الأعمال الأنانية، فتغدق عليها السلطات المال، لتُسَيِّرَها فيما أرادت، وهذه هي «فئة الريموت» التي تراها في مؤسسات الدولة بما هي جاهزة لاستخدامها.
ولهذه الحال رافعة، تتمثل في أن فئة أو طرفا رابعا، يبني ويُرمِّم ويُشيِّد الصروح للقيم الإنسانية، فهو يَألـَم ويَجهد في العطاء، دون مقابل مادي، بل المقابل أن يرى اخضرار ويَـنـَعان ما يبذر ويسقي ويرعى، من علاقات مجتمعية أساسها المواطنة، ومن تحقق المطالب التي تحفظ للشعب حقوقه المدنية ووضعه السياسي في كونه مصدر السلطات جميعاً، ذلك في الدول الدستورية الديمقراطية، أما لدى الأنظمة المستبدة، فتلك ليست إلا عبارة، وليس مبدأ وقيمة وحقاً إنسانياً، احتواه الدستور، وذلك لِكَوْن السلطات عادة لا تكون أمينة في تبنيه، وفي تطبيقه وفي جعله ميزاناً للعلاقة ما بين السلطات والشعب، لتكتسب عَبْرَهُ السلطات قبولها الشعبي، لذا تجد هذه الفئة تعاني الأمَرّين في الدول التي تحكمها هذه الأنظمة.
هذه هي أدوات السلطات العازمة على الاستفراد بالقرار والثروة، لذا كان استتباعاً، ولزاماً على هذه السلطات، إتيان الخطط والآليات والسياسات والقرارات، فيما خَصَّ البناء الأمني، وخاصة استمالة القيادات العليا الى جانب متنفذي السلطات، مع إبقاء أفراد من ذوي الوظائف المتدنية في ظاهرها، مهماتها رفع التقارير الى المتنفذين عن حال وتحركات تلك القيادات، والوسيلة الأخرى هي الاعتماد على الأجانب بالكثرة وقلة من المواطنين، مع الحرص على الخلط فيما بينهم ليتجسس الواحد منهم على الآخر، لضمان السير وفق الخطط الآنية والمستقبلية.
وفي خضم هذه المتقابلات، تخرج على المجتمع فئة خامسة، تحاول أن تتبوأ مكان الصدارة، عبر تسويق نفسها على أنها تتوسط المسافة ما بين الشمال والجنوب، وما بين الشرق والغرب، لذلك هي تعمل على إيهام جميع الأطراف، بأنها تنأى بنفسها عن العمل السياسي والحزبي، المعارض والموالي، وتتبنى الاستقلالية، بمعيار عدم الانتماء لأي طرف مجتمعي، بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع، إلا أن حقيقة وضعها، «الذي لا تتبينه عن نفسها»، أنها تقوم بدور الطابور الخامس، إسناداً لأسوأ مكونات المجتمع، وتكريس أسوأ الممارسات، عبر تقمصها لدور المعارضة المخملية، من حيث ترى أفرادها خليطا متناقض الانتماء السياسي، والأيديولوجيا الفكرية، والتفاوت الخبراتي والعمري، وترى عاقلهم يربت على كتف أسوأهم خلقاً وأداء.