اسماعيل أبو البندورة
أصبح من بداهات القول أن مخططات ومشاريع تقسيم وتفكيك الوطن العربي لا تزال مفتوحة ومستمرة في العقل الاستعماري مع تعدد وتنوع أطوارها وتجلياتها وأدواتها وارتفاع وتيرتها ومع اتخاذها لصور أكثر شراسة وعدائية ضد العرب وظهور أفق ومجال ممكن ومتاح في الوقائع الانحطاطية العربية الراهنة لإجراء هذه الجراحات الاستعمارية الاستراتيجية المتوالية التي ستأخذ الأمة العربية إلى الانقراض والزوال.
وتصل الفكرة الاستعمارية المتوحشة الآن إلى تدمير الدولة العربية وبعدها ومدارها القومي وكل المعاني الاندماجية التوحيدية المرتبطة بها والكامنة في ثناياها والسعي الملح إلى تحويلها إلى كانتونات وجزر منعزلة متقاتلة، واستبعاد الرابطة القومية وطمس الهوية العربية واستبدالها بهويات فرعية هجينة وقاتلة، وتفكيك المجتمعات بإعادتها إلى عصبيات تحتية قبائلية وجهوية وطائفية وإشغالها في حروب أهلية بينية لا تبقي ولا تذر وتضع الناس أمام خطر الفناء والإفناء، وتعيد الشعوب إلى حالة من الفقر والجهل والمرض وإلى العدم بأسوأ تجلياته وحالاته (ونأخذ هنا في الاعتبار والاستدلال ما يفشو في اليمن وسوريا والعراق من أمية وانقطاعات عن الدراسة وكوليرا وأوبئة متنوعة وعدم توفر الخدمات والمتطلبات الأساسية لحياة المواطنين في هذه البلاد).
وإذا كنا قد غفلنا عن هذه الظاهرات في الأعوام السابقة – جراء الانفجار العربي الكبير ونتائجة الكارثية المغايرة لبداياته ومقدماته ودوافعه – واستسلمنا أمام معطياتها وأخطارها وأغفلنا معها الكليات وانهممنا بالجزئيات فإن الحاجة تبدو ملحة الآن لمتابعة مآلات هذه الانهيارات وعدم الوقوف موقف اللامبالاة إزاءها إذ لابد من تمعن جديد واضطراري في أخطارها وتداعياتها لوقف هذه التراجعات والكوارث الخطيرة التي تتحول الآن إلى معركة وجود وحاضر ومستقبل وليست نزاعات فرعية وهامشية يمكن محاصرتها والتغلب عليها.
تطرح الآن على الطاولة الاستعمارية وعلى الواقع العربي مشاريع تفتيتية أشد وأقوى أثراً وتدميراً من سابقاتها السايكسبيكوية ذلك أننا نراها تمسك لهذه الغاية بمبضع حاد وبغيض لإحداث ثقوب وتشققات في الروح والتاريخ والجغرافيا قدمه لها هذا الاضطراب العربي الشنيع وهذه الانشطارات والبيئات الانقسامية التي بدأت تتخلق وتتولد في الأقطار التي اجتاحتها حركات الاحتجاج الأخيرة وأنتجت واقعاً يريد أن يجعل من القطر العربي الواحد أقطاراً ويريد أن يوظف الأقليات والعصبويات المختلفة للتشطير والتذرير ويسعى إلى إبقاء هذه الطوائف والعصبويات المتناثرة في حالة صراع واقتتال دائم لكي يفتح المجال لتسيد الكيان العنصري الصهيوني عليها وإبقائها تحت مطرقته ونفوذه الطغياني في المنطقة.
ولأن ما يتهدد الأمة في المرحلة الراهنة هو حالة نوعية من الانهيار واللامبالاة مترافقة مع اشتداد الحملة الاستعمارية بكافة أطرافها الدولية والاقليمية لإنجاز مشروعاتها في تفكيك الأقطار العربية ووضع أزماتها البنيوية في خدمة هذا المشروع العريض فإن الأمر أصبح يتطلب رداً نوعياً معاكساً في الاتجاه وقوياً في معانيه ودلالاته ووقعه ذلك أن النوازل الكبيرة تتطلب انتهاضاً قوياً وأفعالا تاريخية واستجابات شعبية تعرقل وتوقف هذا الانهيار وتداعياته وتقدم مواقف اعتراضية واحتجاجية تشي بيقظة الوعي وتدارك الأخطار والاستعداد للمواجهة.
ولأن ما يجري أصبح يهدد الكثير من الثوابت الوطنية والقومية والوجود العربي بأكمله فإن الضرورات أصبحت تقتضي إدراكات من نوع مختلف واشتقاق محاولات ومبادرات يمكنها أن تضع تصورات عملية وعاجلة لمواجهة موجة التفتيت القائمة والتمسك بموقف قومي ثابت إزاءها وأصبح من ضرورات البقاء والاستجابة التداعي لخلق رأي عام حول هذه المسائل تمهيدا لانبثاق آليات عمل جديدة في الواقع العربي تدفعه إلى ممارسات نوعيه تخرجه من حالة التأزم والانهيار.
ومحاولة إنتاج وعي جديد ومؤثر حول التأزم العربي وطرق تشخيصه في أطواره المتسارعة الحالية وتجاوزة تقع في صميم المهمات المطلوبة في المرحلة الراهنة وتشكل نقطة البداية في التحريك والفهم المختلف وتوليد الضغط المطلوب على الجهات الرسمية والشعبية للإنخراط في حملات جديدة من الاستنهاض أو على الأقل وعي المأساة والسعي إلى تحديد الأسئلة والأجوبة المطلوبة لفتح الآفاق العربية المسدودة والانتقال إلى عصر عربي جديد فيه إدراكات حادة وفيه توجهات لاقتحام هذا الجدار من الاستعصاء والردة.