محمود القصاب
على رغم شدة التباين في المنطلقات، وحدة التباعد في الخيارات بين أطراف الأزمة البحرينية (السلطة، القوى المعارضة، قوى الموالاة) وبالتالي انعكاس هذا الأمر على اختلاف وجهات النظر في تفسير أسباب وجذور الأزمة، وسبل معالجتها، على رغم كل ذلك؛ فإن هذه الأطراف ومعها كل المتابعين من الداخل والخارج يتفقون جميعاً على أن هذه الأزمة وتداعياتها التي لاتزال تتفاعل بشكل سلبي وعلى كل المستويات، تعتبر واحدةً من أكثر الأزمات صعوبةً وتعقيداً في تاريخ البحرين الحديث، وأنها على درجة من الاتساع والعمق والشمول بحيث طالت الأوضاع السياسية، وهزت البنية الاجتماعية والثقافية، وخربت بعض الجوانب الأخلاقية والإنسانية في المجتمع.
إن هذه الحقيقة باتت ساطعة كالشمس، لم تعد قابلة للإنكار أو الإخفاء، لأنها تعلن نفسها يوميّاً وتفصيليّاً في العديد من المواقف الحدية والسلوكات المتشنجة من هنا وهناك.
في موازاة هذه الحقيقة؛ هناك حالةٌ من الإنكار والرفض تتلبس البعض الذي لا يريد أن يقر أو يعترف بأن هذه الأزمة تعود في أسبابها الرئيسية إلى أن البحرين قد ذهبت سياسيّاً واجتماعيّاً وإنسانيّاً بعكس الاتجاه الذي كانت قد وعدت أن تسير فيه منذ انطلاق المشروع الإصلاحي لجلالة الملك العام 2000. وهو المشروع الذي جاء أصلاً لتصحيح أوضاع النظام السياسي في البلاد، وتعزيز الصورة الديمقراطية التي أراد جلالته تكريسها من خلال تصفية كل مواريث الحقبة السابقة لتوليه الحكم، وإنصاف كل من أصابه الأذى من تلك الحقبة.
هذا هو جوهر المشروع الإصلاحي الذي وجد طريقه للتنفيذ بعد توافق الإرادة الملكية مع الإرادة الشعبية. وهنا علينا أن نقول بكل وضوح ومن دون أي لبس: صحيح أن النضال الوطني الديمقراطي لشعب البحرين وقواه السياسية يمثل أحد العوامل الرئيسية في التعجيل بمشروع الإصلاح، إلا أن أي منصف أو محلل موضوعي عارف بسياقات الوضع السياسي في بلد مثل البحرين، وفي محيطه الإقليمي، لا يسعه إلا الإقرار بأن الإرادة الملكية قد اختصرت الطريق على الإرادة الشعبية العامة والمنطلقة للإصلاح والتغيير في تلك الفترة. لذلك فإن صدور ميثاق العمل الوطني الذي عكس تلاحم الإرادتين (الملكية والشعبية) كان هو عنوان المرحلة والقاطرة التي أوصلت البلاد عند حدود أو مشارف الديمقراطية، عندما أعلن تأسيس الجمعيات السياسية، وإجراء انتخابات برلمانية، وجرى صراع أو تنافس بين قوى عريقة وناشئة ومستحدثة، وكان إعلان (الملكية الدستورية) هو الشعار أو المطلب الذي وحد وجمع حوله الجمهور السياسي والاجتماعي، من غالبية الانتماءات والتوجهات، وبذلك صار هذا الشعار مطلباً شعبيّاً بعد أن كان مطلباً سياسيّاً نخبويّاً ترفعه بعض القوى أو النخب السياسية فقط.
كانت نقطة البداية لحالة الافتراق وتدشين الخصومة السياسية قد جاءت بإعلان دستور 2002، وهو ما جعل الجمعيات السياسية وبعض الجماعات السياسية تعلن معارضتها لهذا الدستور بعد أن رأت في إصداره بهذه الطريقة تراجعاً سياسياً، وجاءت الكثير من المواقف السياسية والشعبية لتعبّر عن هذا الرفض، وتعكس في الوقت نفسه مدى إصرار واستعداد هذا الجمهور السياسي والاجتماعي لاستمرار المطالبة بـ (الملكية الدستورية)، عبَّر عن نفسه من خلال الفعاليات والتحركات المتواصلة التي تم تتويجها بإعلان «المؤتمر الدستوري» تأكيداً لأهمية هذه القضية بالنسبة إلى القوى السياسية والشعبية. كان ذلك قبل أن تتمكن الدولة من كسب المعركة الدستورية، عندما عملت على حصار «المؤتمر الدستوري» في الحلبة الضيقة والشروع في توجيه الضربة القاضية له، التي جرى استكمالها بعد ذلك بإعلان مراسم موت ودفن هذا المؤتمر على يد بعض القائمين والمؤسسين له!
في الضفة المقابلة، كانت بعض القوى المتضررة من الإصلاح والتغيير تحاول استثمار هذه الظروف لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإعادة إنتاج الوضع السياسي القديم بأشكال وصور مختلفة، تجسدت في قطف بعض المكاسب السياسية والدستورية التي تضمنها ميثاق العمل الوطني. ورأينا تراجعاً ملحوظاً في الحريات (حرية التعبير والتنظيم والتظاهر) وجرى تضييق الخناق على الجمعيات السياسية، وفرض القيود التي تحدُّ من حركة وحرية المنظمات النقابية ومؤسسات المجتمع المدني، وغابت الشفافية والمحاسبة، ما ساعد على استشراء الفساد في الكثير من مؤسسات الدولة، ووجدنا الأراضي تختفي من على «الخريطة الجغرافية» والسواحل يجرى ابتلاعها أمام أعين الناس الذين «ضاقت بهم الأرض بما رحبت»، الأمر الذي أوصلهم إلى حال من الإحباط واليأس.
كان هذا الشعور مع ما يجري على أرض الواقع من سياسات حكومية من جهة وتواضع المكاسب البرلمانية من جهة أخرى؛ أكد حقيقة النواقص والثغرات في التجربة الإصلاحية وكشف حجم الخلل في البنيان السياسي والدستوري في البلاد. وهو الذي من أجله بُحَّ صوت القوى السياسية المعارضة ومن معها من الشخصيات الوطنية والحقوقية وهي تدعو إلى سد هذه الثغرات ومعالجة مواطن الخلل من أجل إعادة الشرعية والصدقية للعمل السياسي في البلاد، بعد أن وضعت يدها على الجرح وخصوصاً في مسألة فصل وتوزيع السلطات على نحو متوازن، والتمسك بمبدأ «الشعب مصدر السلطات»، ولكن الدولة ومن معها لم تكن ترى هناك ضرورةً أو حاجةً للقيام بأي تعديلات دستورية تصلح به الوضع القائم. وهو ما زاد في تفاقم التوتر السياسي والاجتماعي في البلاد، وتصاعده حتى شهد انعطافةً مفصليةً ومهمةً في 14 فبراير/ شباط 2011 مع نشوء ظروف سياسية جديدة في سياق انطلاق مسلسل «الثورات» و»الانتفاضات» العربية، أو ما أطلق عليه «بالربيع العربي» لتجديد المطالبة بإصلاح النظام السياسي.
لقد كانت رسالة هذا التحرك واضحة وجلية، ملخصها أن القميص السياسي الذي ألبس البلد والناس قبل عقد من الزمن، بدأ يضيق ويضغط عليهم لدرجة الاختناق، من دون أن يجدوا تفهماً أو استجابةً من الدولة لفتح «نوافذ» سياسية جديدة، أو «آفاق» دستورية عادلة يتم معها تجديد «الهواء السياسي»، والسماح بالتالي لدخول «نسائم ديمقراطية» تحرك الأجواء والمياه الراكدة. ولم يكن لأحدٍ من المراقبين المنصفين أن يتوقع غير هذه النتيجة الطبيعية والمنطقية، التي هي إفراز طبيعي لتمسك الدولة والسلطة السياسية برؤيتها في معالجة الأوضاع السياسية، وهي رؤية كما كشفت عنها الحوادث، من قبل ومن بعد، تنطلق من إعلاء شأن الخيار الأمني والصعود به إلى أقصى حدوده الممكنة، والتقليل من شأن الخيار السياسي الديمقراطي والنزول به إلى أدنى حدوده المتوقعة! وهذه رؤية ليس باستطاعتها أن تأخذ البلد إلى مصاف «الديمقراطيات العريقة» كما بشّر بها ميثاق العمل الوطني.
وقد جاءت الأزمة الأخيرة لتضيف إلى المشاكل السياسية والدستورية مشكلة جديدة لم تكن مطروحة بهذه الصورة القاتمة والمرعبة، وهي الانقسام المجتمعي والطائفي الذي وضع البحرين على مشارف الانهيار السياسي والاجتماعي. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بتفاصيل ما حصل من أحداث وتطورات سياسية وأمنية، فقد أصبحت جميعها راسخة في الذاكرة الجمعية للوطن، نظراً إلى حجم التضحيات وكلفة الأثمان التي قدمت في ظل حال السلامة الوطنية. فهناك الشهداء والجرحى والمعتقلون، وهناك من انتهكت حقوقهم وقطعت أرزاقهم وفصلوا من وظائفهم. وهناك مبادرة ولي العهد التي أجهضت وهي «جنين» لقطع الطريق على الحل السياسي الذي وفّرته هذه المبادرة. وهناك مؤتمر الحوار الوطني الذي أثار الكثير من الأسئلة في البدء والمنتهى، وأحاطت بنتائجه الكثير من الشكوك فيما إذا كانت تعكس الشراكة الحقيقية لإرادات المجتمع البحريني كله أو أنها تعبر عن التوافق الوطني الحقيقي الذي جرى الحديث عنه كثيراً.
وأخيراً وليس آخراً، هناك اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق، وما سجلته من وقائع وأحداث مريرة، تتعلق بقضايا حقوق الإنسان، وما خرجت به من توصيات لمعالجة الانتهاكات والأخطاء التي حصلت.
هذه اللمحة السريعة ضرورية لإضاءة جوانب كثيرة في الأزمة ومن بينها المسألة الدستورية التي تحتل مكانة خاصة في وعي الناس وفي المجتمع السياسي البحريني والتطور الذي سلكته هذه القضية بدءاً بصدور أول دستور العام 73 مروراً بدستور 2002، وانتهاءً بآخر التعديلات الدستورية التي أعلنها جلالة الملك في خطابه يوم 15 يناير/ كانون الثاني الجاري، وهي على ما يبدو المحطة الأخيرة التي استقر عندها القرار السياسي وكانت الجواب الرسمي على كل ما كان ينتظره الشارع والرأي العام لإخراج البلد من أزمته الطاحنة.
فهل بعد كل هذا المخاض العسير، وكم الآلام التي رافقته وبعد كل هذا النزيف الذي أنهك جسد الوطن، يأتي المولود الذي انتظره الناس بفارغ الصبر بهذا الحجم والشكل؟ يعني بوضوح هل الأوضاع الداخلية والإقليمية لا تسمح حقاً بأكثر من هذه الصيغة الدستورية التي حملتها التعديلات الأخيرة؟
إننا نطرح مثل هذه الأسئلة المشروعة والتي تحمل القلق على الحاضر والمستقبل، من دون أن نتجاهل حقائق الوضع السياسي في البلاد وتوازنات القوى السياسية والاجتماعية فيه، ونعرف بالتالي ما هي الحدود الممكنة لمطالب الإصلاح والتغيير. ومن دون أن نقع في شراك النظرة الاختزالية، التي تركز على جانب وتضرب صفحاً عن جوانب أخرى، ومن دون أن نكون أسرى للمواقف الحادة والانفعالية، وبعيداً عن السجلات التي تثار عادة في مثل هذه الحالات بين التمسك «بالمبدئية الديمقراطية» أو القبول بـ «الممكن الديمقراطي»، نستطيع التأكيد وبكل ثقة واطمئنان أن هذه التعديلات قد حملت بعض الجوانب الإيجابية إلا أنها ليست سوى خطوة واحدة قصيرة في طريق الألف ميل الذي كان على السلطة أن تقطعه. وهذه التعديلات لن تكون قادرةً على تقديم الإجابات الوافية لكل «الانتظارات» السياسية والدستورية التي طال مداها.
لكل ذلك هي لن تستطيع أن توفر للدولة الاعتراف الجماعي بشرعية هذه الخطوة، التي اعتبرها البعض محبطة للآمال، باعتبار أنها محدودة جدّاً وغير توافقية، ولا يمكنها أن توفر حياة سياسية مستقرة ومنتظمة في البلاد، طالما ليس لها علاقة بآلية التوافق والتراضي، التي نحن نعتبرها آلية شرعية ومبدأً يمكن من خلاله مقاربة الكثير من الخلافات الداخلية وتحكيمها في فض المنازعات.
إننا نشدد هنا على مسألة التوافقية، في ظروفنا الراهنة، لأننا ندرك عمق الخلافات بين مكونات المجتمع وقواه السياسية، ودرجة تباعد مسافات التفاهم بينها، وربما يتعذر حتى مجرد اللقاء بين هذه الأطراف للوصول إلى توافقات محددة في ظل الاحتقان الطائفي المخيم على البلد. فالأزمة التي عصفت بالبلاد قد كشفت كم أن المجتمع البحريني خاوٍ ويعاني نقصاً فادحاً في قيم السياسة وقواعدها. فما يجري اليوم ليس تنافساً أو صراعاً سياسيّاً يتم وفق أصول السياسة وقواعدها المتعارف عليها، بل مجرد صراعات مذهبية، ومناكفات طائفية حيث يحاول فيها طرف كسر عظم الطرف الآخر، ويسود فيها منطق أو عقلية «المنتصر»صاحب القوة والغلبة، الذي يقدم «للمهزوم» بعض «فتات» الديمقراطية وعليه قبولها أو أن «يشرب من البحر»!
إن هذه القضية تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة ووقفة نقدية شجاعة للذات والتفكير بجدية ومسئولية في المصلحة العليا للوطن، ومن المهم معرفة أن المطالب الديمقراطية الشعبية لم يعد ممكناً تجاهلها أو الإعراض عنها، في ضوء المتغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة، وأن اختيار طريق التجاوب والاستيعاب الايجابي لها، هو أفضل وأقصر الطرق لضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وهو الخيار الأقل كلفة لتعزيز نظامنا السياسي الدستوري العادل والقادر على توزيع السلطة والثروة وفق قواعد العدالة والمساواة والمواطنة الحقة