كتب الكثيرون عن الردًّات الفكرية والعاطفية عند الإنسان العربي في دول مجلس التعاون الخليجي. على رأس قائمة تلك الانتكاسات رجوعه إلى الاحتكام للقيم والمشاعر الطائفية والقبلية والعرقية والقطرية في أمور حياته اليومية، بينما في قلب تلك القائمة سقم وأفول أهم رموزه الثقافية، رمز استعمال وإجادة لغته العربية. وبالطبع فان ذلك النكوص في الفكر والثقافة يمثٍّل كارثة قومية تضاف إلى كوارث التخلف في السياسة والاقتصاد والأمن والمعرفة وغيرها، وهو يمثل أيضاً أحد أهم مصادر التشويه لشخصية ساكني تلك البلدان.
لكن ذلك التشويه لن يقف عند حدود تلك الإنتكاسات، إذ شيئاً فشيئاً سيضاف تشويه جديد ناتج عن التأثيرات السلبية للثقافة العولمية الاستهلاكية. وهذا موضوع يستحق إعطاءه اهتماماً كبيراً في المستقبل من قبل أخصائيي علمي الاجتماع والنفس ومن قبل مراكز البحوث. ذلك أن الشخصية العربية الخليجية، الحارقة لأموال البترول في لهيب الاستهلاك المادي العولمي النهم، المتعرضة لتنويم مغناطيسي سالب لإرادتها من قبل شركات الإعلان ومحطات البث التلفزيوني، تتحول في فكرها وعاداتها وذوقها ونمط عيشها إلى الشخصية التسويقية التي وصفها عالم النفس الأمريكي أريك فروم في منتصف القرن الماضي، انها الشخصية التي لا تعي ذاتها إلا كسلعة خاضعة في قيمتها ومعناها لعوامل خارج ذات الإنسان. إن تقييم الآخرين لصاحب تلك الشخصية يرتكز على مقدار ما تملك من مال ومقتنيات البذخ الغالية الثمن، وعلى مقدار ما تلبس من أقنعة لإخفاء نواقصها وأوجاعها الداخلية. مثل هذه الشخصية هي سلعة، هي شيء يباع ويشترى تماماً كما يباع ويشترى الأثاث المنزلي أو البيت الفاخر.
ولقد جرت دراسات ميدانية تحليلية لمكونات هذه الشخصية في العديد من المجتمعات، وعلى الأخص الغربية، فأظهرت أننا أمام شخصية مركبة ومشوهة، يتركُّز تواجدها في المجتمعات الأكثر تعرضاً لتأثيرات الأجواء العولمية الاستهلاكية. فهي مبذرة في كل ما تستهلك، فاقدة للإستقلالية فيما تحب وتكره، خاضعة لإملاءات أذواق الآخرين، راضية ببلاهة عن نفسها وعن مجتمعها، متعاملة مع نفسها كسلعة للبيع، مقيمة لذاتها بمقدار ما تملك وما تتميز به عن الآخرين، متأثرة بما يقوله الإعلان وبما يعرضه التلفزيون من شخصيات وبضائع، غير مكترثة بالقيم الجمالية والروحية، وبالطبع فان الحصيلة لكل تلك المكونات لا يمكن إلاُ أن تنتج إنساناً أنانياً غير ملتزم بقضايا مجتمعه وحاجات الآخرين، منغلقاً على إرضاء رغباته التي لا تشبع، حسيا في كل تصرفاته، وفردياً في طموحاته وأحلامه. إنها شخصية تعيش عالم الوحدة وذلك بالرغم من علاقاتها الاجتماعية الانتهازية النفعية الواسعة. ولأن رغباتها لا تجد لها نهاية فإنها تبقى في حركة دائمة وفي عمل لا يتوقف يدخلها في عـالم الأمراض والتوترات العصبية.
مثل هذه الشخصية هي ما تسعى لبنائها مؤسسات العولمة الرأسمالية الإنتاجية والخدمية. فهي وحدها لديها القابلية لعبودية الاستهلاك الدائم الذي لا يشبع قط حتى تبقى عجلة الإنتاج المتعاظم دائرة ليل نهار وحتى تتضخم كروش المؤسسات الرأسمالية سنة بعد سنة، فيزيد الأغنياء غنى ويلهث الفقراء وراء سراب حلم الثروة والعيش الناعم. هناك دلائل تشير إلى أن الإنسان العربي الخليجي، الغائص في ترف الثروة النفطية، يتحول بسرعة إلى مثل تلك الشخصية فيضيف إلى نواقص ومخاطر الارتداد إلى الولاءات الفرعية وإلى تشوه كثير من رموزه الثقافية بعداً ما بعد حداثي سيجعله غير صالح ولا قادر للقيام بمهمات النضال من أجل النهوض والتحرر والتنمية والديموقراطية وتوحيد أمته.
فاذا أضيف إلى كل ذلك ضعف المؤسسات المجتمعية المسؤولة عن حمايته ومساعدته، مؤسسات الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام والثقافة، وانغماس الدولة فـي اللعبة العولمية إياها، أدركنا عظم الكارثة التي تنتظرنا في المستقبل القريب. من هنا، فان الدولة العربية الخليجية تخطئ إن اعتقدت أنها ستكون بمنأى عن أهوال وأوحال تلك التغيرات العميقة الكبرى في شخصية أجيال المستقبل.