من اللافت للنظر ان أوضاع العمال المفصولين تتأرجح بين الحقيقة واللاحقيقة، وهذا القول ليس نابعا من عدم المعرفة حيث أصبح صعبا من وجهة نظري على المتابع لقضايا العمال المفصولين معرفة يقين الامور، كيف تسير، والى أين تسير؟
وقد يتساءل آخر: هل يعقل لصحفي يتابع قضايا العمال قبل الأحداث وبعدها ألا يعي أو لا يعرف بالضبط حقائق أوضاع العمال؟، والجواب: نعم لا يعقل، وسؤالكم هذا صحيح، ولكني أنظر الى الأمور من زوايا عدة وليس من زاوية واحدة حيث الزاوية الواحدة تعني إغلاق الشخص في بوتقة رؤية معينة لا تسمح بالتقارب أو تقبل وجهة النظر الأخرى.
ومشكلة عدم تقبل الرأي الآخر هي مشكلة أزلية في عالم السياسة العربي والغائصين في بحاره العميقة، والراكبين أمواجه المتلاطمة مع العلم ان أي قضية عمالية في مملكة البحرين منذ عام 2002 لم تعد تتقبل وجهة نظر واحدة ولا اثنتين بل ثلاث وجهات نظر بعد السماح للنقابات العمالية بالتأسيس في ذلك العام ممثلة في الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين.
إذًا أي قضية عمالية الآن قبل عرضها على المحكمة العمالية، تمر على ثلاثة أطراف، هي، الأول: صاحب أو رب العمل.. الثاني: الجانب الرسمي ممثلا في وزارة العمل.. الثالث: اتحاد النقابات الممثل الوحيد للطبقة العاملة في البحرين، يتداولونها كمحاولة للحل الودي قبل رفعها الى المحكمة للبت فيها، وهذه حقيقة ميزة مضيئة وخطوة متقدمة في تاريخ ومسيرة العمال حققوها عبر سنوات من المطالبة بكيان يجمعهم ويدافع عن مصالحهم المهنية.
ولكي أثبث كلامي فيما يتعلق بعدم وضوح أوضاع العمال المفصولين حيث التناقضات في الأقوال والتصريحات بين المسئولين والعمال متصاعدة تجعل المواطن يحار في أيهما يمثل الجانب الدقيق في القضية، لذا أتقدم ببعض الامثلة، علها تخفف من وطأتها على القارئ الذي قد يخالفني الرأي.
أولا: قبل أيام مضت أعلنت نقابة ألبا انها وبالتنسيق مع إدارة الشركة رتبت دفع 70 ألف دينار الى 204 موظفين من جملة المفصولين الـ 416 موظفا أحيلوا إلى التقاعد الطبي، وهنا أتوقف في مسألتين، أولاهما: ان المبلغ ليس بقليل.. وثانيتهما: عدد من شملهم ليس بقليل أيضا حيث يصبح مجموع التعويض لهذه المجموعة 14 مليونا و280 ألف دينار.
والغريب في الأمر أو المحير في قضية التعويض أني لما سألت البعض من عمال ألبا، أنكروا ذلك، وبعضهم أقر بحصوله على تعويض لكن لا يتجاوز 10 آلاف دينار.. فأيهم نصدق؟
ثانيا: تسلم 30 عاملا من ألبا خرجوا إلى التقاعد مبلغ 10 آلاف دينار و40 راتبا، ومع ذلك، لزم من حصلوا على هذه الميزة الصمت في الكشف عما حصلوا عليه.. فمن نصدق؟
ثالثا: سمعنا عن عودة عدد من عمال بابكو الى العمل، والنقابة تقر ولكن بعدد محدود جدا لا يتعدى (35 عاملا) بينما مصادر الشركة تلمح إلى عدد أكبر من هذا (يتجاوز 50 عاملا).. فأيهما نصدق؟
رابعا: اعترف بعض العمال بعودتهم الى العمل في كل من شركتي بابكو وألبا، لكن حين تسألهم عن صحة عودتهم، يجيبونك على الفور، بما يلي: أي عودة هذه؟ عدنا بشروط.. وعدنا بتواقيع على عدم التدخل في السياسة، واحتسبونا كعمال جدد.
ولما تسأل المديرين في ألبا أو بابكو، يكون الجواب: هذا ليس صحيحا.. عادوا الى أعمالهم، ومازلنا نعمل على عودة الباقين من دون شروط كالتي ذكرت.. فأيهما نصدق؟
خامسا: حسبما سمعته من محامي اتحاد النقابات أن المحاكم العمالية لا تعيد العمال الى أعمالهم بقدر ما أنها تحكم بالتعويض، وهذا الموضوع كونه قانونيا، ملزم للجميع ولكن يمكن القول انه ليس في صالح العامل الذي قضى 20 سنة او اكثر، ويرى نفسه ليس موضع تقدير بعد هذه السنوات من العشرة والخبرة.. أليس هذا يميط اللثام عن تناقض بين أمل العمال في العودة، وبين خيبة أمل في استحالة عودتهم في حالات الفصل بغض النظر عما إذا كان تعسفيا أم غيره؟
سادسا: أرقام المفصولين التي تصدرها وزارة العمل في المؤسسات الخاصة لا تتفق مع الأرقام الصادرة عن الاتحاد العام لنقابات العمال.. فأيهما نصدق؟
طبعا هناك أمور أخرى يصعب سردها لضيق الحيز لكنها مرتبطة بالموضوع مثل تصريح الأمين العام للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في أكثر من بيان مفاده ان الأمانة العامة تشيد بالعودة الكريمة الى العمل من دون مساس بحقوق العمال ومن دون شروط تنال من إنسانيتهم، أو تؤثر في مستقبلهم المهني.
مع الإشادة هنا بتوجيهات القيادة السياسية في البلاد ودعوتها الشركات والمؤسسات إلى الاهتمام بموضوع عودة المفصولين ضمن الإطار القانوني، وقد ظهر هنا رأي يقول لطالما دعت القيادة العليا في البلاد الشركات والمؤسسات إلى إيلاء اهتمام خاص لمسألة عودة المفصولين، فلماذا تلكأ بعض المؤسسات في عدم تنفيذ هذه التوجيهات السامية، أسابيع عدة؟
أليست هذه الأمور محيرة وتصب في مجرى حقيقة ولا حقيقة وضع العمال المفصولين؟.
وأخيرا أسأل القراء: هل اقتنعتم بأن مسلسل المفصولين عن أعمالهم خلال الأحداث الأخيرة يشوش المتابع ويضيعه بين مجرياته، فلا يقدر على أن يرسو على حافة الحقيقة.. وصدق من قال: "ان الحقيقة مرة".