فيما يجري في العراق، يبدو الجديد الوحيد هو ان سقوط عشرات الشهداء يوميا، يأتي بعدما غادر جنود قوات الاحتلال الشوارع العراقية وعادوا إلى قواعد محمية لهم، تحميهم من ألغام الشوارع دون ان تحميهم من صواريخ المقاومة العراقية. وهنا يبدو الأمر الجدير بالتأمل هو ما إذا كان هناك فارق في الدور السياسي لقوات الاحتلال، في حالتي الوجود في الشوارع أو الانسحاب إلى القواعد، إذ الدور السياسي لقوات الاحتلال لا يرتبط بمكان وجودهم على ارض العراق، وإنما بخطة الاحتلال. ولذلك كان طبيعيا ان يقال ان العراقيين كانوا يسقطون شهداء في ظل وجود قوات الاحتلال في الشوارع كما يسقطون الآن.
وفي الواقع الفعلي، لا جديد على صعيد اتجاهات الغدر والقتل والفعل العدواني الذي يستهدف العراقيين الذين أصبحوا لا يعيشون في مناطق مأهولة بالسكان بل في مناطق مأهولة بالموت يتنقلون يوميا بين الموت والموت. لا جديد حيث الاتجاه البارز الآن في اتجاه عمليات القتل العشوائي الاجرامي، هو ذات الاتجاه الطائفي الذي يعمل بإصرار وإلحاح من اجل دفع العراقيين إلى موجة تقاتل طائفي، وهو ما أصبح ظاهرة متجددة، كنار يداعبها هواء يعلو ويخفت حسب ارادة من يشعلها وحسب اتجاهات الرياح. لقد تعرض العراق إلى مثل تلك الموجة من حصد الأرواح على الهوية مرات ومرات، كانت جميعها مرتبطة بطبيعة المأزق التي تتعرض لها قوات الاحتلال والمجموعات المرتبطة بها وبظروف سلطة الاحتلال المحلية وما تواجهه من رفض شعبي وسياسي.
وفي الواقع الفعلي، لا جديد في ما يقال حتى الآن حول تعدد الأطراف الفاعلة والمستفيدة من موجة حصد الارواح الجارية الآن في العراق. هناك من يتحدث عن ان الفاعل هو طرف عراقي مشارك في الحكم ومتضرر بشدة من التطورات الجارية في داخل الحكم وعلى صعيد الشارع، ومن ثم لم يجد أمامه مجددا إلا تصعيد موجة القتل الطائفي باعتبارها المنقذ لانهياره كليا، بعدما تصور ان حكم العراق قد أصبح في يده إلى ما لا نهاية. هو سبب واتجاه ذكر من قبل وان كانت الأسباب والمبررات التي سيقت وقتها مختلفة عما يقال الآن مع ثبات نفس الطرف. لقد قيل من قبل ان أطراف في الحكم في العراق تثبت وجودها في السلطة عبر الحشد الطائفي خلفها من خلال عمليات إرهابية ضد نفس المستهدفين بالحشد، اذ يجري الحشد عن طريق اشعارهم بالخوف من الاخرين – نظرية الرئيس بوش في الحكم في أمريكا بتخويف الأمريكيين من الإرهاب- فالقتل يجعل هذا التيار السياسي الفاعل للقتل هو الملاذ لمن خافوا من القتل!.
وهناك من يرى ان أطرافا في داخل الحكم تريد من موجة التفجيرات الراهنة، ابقاء قوات الاحتلال في العراق، لإدراكها ان عملية الانسحاب المحتملة – فضلا عما يقال عن احتمالات تسريع الانسحاب- تعني انهيار السلطة القائمة، وهو سبب قيل من قبل ايضا، حينما افتضحت لعبة تفجيرات سامراء اذ قيل ان طرفا عراقيا جاء على ظهور دبابات الاحتلال الأمريكية وفق توافق مع إيران، يخاف من انسحاب القوات الأمريكية تحت ضغط المقاومة، فصار يثير الذعر لتأكيد ضرورات بقاء تلك القوات بعمليات القتل. وهناك من يشدد على دور قوات الاحتلال واعوانها من عملاء الاستخبارات خاصة في الشركات الامنية الخاصة التي تمارس مهنة القتل، اذ تلك القوات لا تريد الانسحاب الا تحت ستار اضطراب الاوضاع بين العراقيين، بما يعطل فكرة الانسحاب تحت ظلال الهزيمة على يد المقاومة، حتى لا تتكرر عقدة فيتنام في أمريكا او حتى لا تتجدد في صورة عقدة العراق، اما الشركات فهي صاحبة مصلحة في بقاء قوات الاحتلال واستمرار الاضطراب.
وهناك من يشدد على دور اقليمي متعدد، بحكم تصاعد ازمة العلاقات بين إيران والدول العربية، وفي ذلك اشار البعض إلى استهداف ضعف العراق الذي كان اصل تحول تلك الأطراف من وضع الضعيف إلى وضع المهيمن، وقال البعض ان احد الأطراف يستهدف اشغال الرأي العام في المنطقة عن أزمات واحداث داخلية يعاني منها هو، وقيل ان هناك من يعتبر ان المعركة الداخلية في العراق بمثابة معركة امامية تلغى او تؤخر معركة داخلية قد تنشب في بلاده.. الخ. وكل ذلك كثيرا ما تردد من قبل.
لكن القضية الاصل في كل ذلك، هي في الوصول إلى توصيف دقيق لما يجري، ففي حين يواصل الحديث عن ان العراق يشهد ترديا امنيا – ضمن معزوفة كاملة منها عبارات ومصطلحات السيطرة الامنية وعودة الامن وتحسن الاوضاع الامنية..الخ – فان الاصل فيما يجري في العراق هو انه يعيش حالة من التردي السياسي، الذي بسببه يجري ما يجري الآن من موجة ابادة جماعية جديدة لأهل هذا البلد.
الأزمة السياسية وأبعادها
كل الأطراف في العراق تعيش ازمة خانقة حاليا، الاحتلال يعاني من ازمة سياسية حقيقية بل ذات طابع استراتيجي شامل. فالولايات المتحدة التي فعلت كل ما فعلت في العراق وانفقت كل ما انفقت ونزفت من رصيدها الدولي كل هذا النزيف، تجد نفسها في نهاية المطاف قد سلمت العراق إلى إيران، اذ هي لم تستطع تغيير توازنات الحكم الذي شكلته بالتوزاي والتفاهم مع إيران، في الوقت الذي لم تستطع تكوين تشكيلات سياسية او عسكرية قادرة على السيطرة على الجمهور العراقي لمصلحتها هي وحدها، كما هي في وضع لا تحسد عليه في محاولتها تطوير علاقاتها مع بعض أطراف المقاومة من اجل ايجاد توازن مع القوى المرتبطة مع إيران. والولايات المتحدة غير قادرة على ترك العراق على هذا النحو الذي هو عليه الان، ليس حرصا على العراق وانما قلقا على استقرار مصالحها او لنقل مطامعها النفطية والاستراتيجية هناك. والاخطر عليها في ادارة تلك الازمة، انها باتت في وضع لا تحسد عليه مع حلفائها في المنطقة قبل اعدائها، اذ الضعف الاستراتيجي الذي تعاني منه قد اصاب حلفاءها بالقدرة على ابراز مصالحهم الذاتية على نحو اكبر من السابق.
والحكم الراهن في العراق، يعاني من ازمة سياسية خانقة هو الاخر. فمن ناحية، يبدو ان العلاقات السياسية والمصلحية والشخصية بين المتخالفين قد تدهورت إلى درجة خطرة، وربما يمكن القول ان الاحداث المتواترة في إيران، قد زادت من الافتراق في داخل العراق ان لم يكن بحكم ارتباط تيارات في العراق بتيارات متصارعة الان في إيران، فبسبب عدم تفرغ إيران لممارسة ذات الدور الذي كانت تقوم به من قبل، فضلا عن ان معطيات المواقف الإيرانية المساومة مع الولايات المتحدة باتت تؤثر على استقرار القوى المتعاونة مع إيران على الارض العراقية. ومن ناحية اخرى، يبدو الحكم رغم كل ما قام ويقوم به، قد افاق على وجوده في لعبة سيرك لا تنتهي ابدا، اذ السياط تنهال من كل حدب وصوب عليه هو دون ان يصاب احد من ماسكي السياط بالكلل. الأمريكان، وقد تغيرت اوضاعهم في العراق ورؤاهم صاروا يطلبون التعديل إثر الآخر في توازنات تشكيل سلطة الحكم، وفق ما يحقق مصالحهم او وفق خطتهم لادارة ازمتهم في العراق والمنطقة، او لنقلها صراحة ان اللعبة الجارية مع القيادة الإسرائيلية بالضغط عليها للحصول على بعض الاوراق لادارة العلاقات مع العرب، يجري مثلها على نحو ما مع القيادة الحالية في السلطة العراقية، اذ يطلب منها قدر من التنازلات مما حصلت عليه (بغير وجه حق) من اجل تمكين الولايات المتحدة من تحقيق ذات الاهداف، هذا في الوقت الذي يخشى فيه الإيرانيون على ما حققوا (بغير وجه حق ايضا) في العراق، فيمارسون ضغوطهم المضادة من داخل وخارج السلطة..الخ. وكل ذلك يجري للسلطة بينما الشعب العراقي والمقاومة يشددون الخناق على تلك السلطة، سواء بسبب عدم قدرتها على تحقيق مطالب الحد الادنى والاقل من الادنى للشعب العراقي، او لان تلك السلطة هي في نظر المقاومة ليست الا يدا للمحتلين في كل الاحوال.
والقوى التي شاركت في العملية السياسية للاحتلال، صارت في وضع اخطر من كل وقت مضى، اذ هي تجد نفسها تتعرض لمصير الجياد التي تفقد صحتها فيتم الاستغناء عنها او اطلاق الرصاص عليها لتموت اسرع بلا عذاب. القوى السياسية القديمة صار يخرج لها في كل يوم بدائل، فالصحوات وجدت نفسها في مواجهة مراكز الاسناد التي شكلها المالكى، والاحزاب "السنية" انتقلت من اهتراء الى اهتراء، وها هي الان تواجه ظهور تيارات جديدة مدعومة من أطراف قوية. بل حتى الاحزاب الطائفية الشيعية صارت في مهب ريح عاتية، بعدما انفض عنها الجمهور العام وبعدما ثبت تورط البعض منها في عمليات اجرامية كما هو الحال في عملية السطو على مصرف الرافدين ومحل الصرافة مؤخرا، والذي كان مؤشرا ليس على التركيبة الاجرامية للحزب الذي قام بها فقط، بل تعبير عن تحول الأمريكان من ناحية وإيران من ناحية اخرى، عن تقديم الدعم المالي لتلك التنظيمات بفعل الازمات المالية والسياسية. والامر لم يترك حتى المناطق الكردية التي تصور سادتها المعلبين أمريكيا وإسرائيليا ان الباب اغلق على اهل تلك المنطقة وان المفتاح لم يعد بيد احد سواهم، فاذا بالانتخابات الاخيرة تظهر توجه اهلنا الاكراد جنوبا وتصاعد ارتباطهم بالعراق على حساب تلك الرؤية الانفصالية واصحابها.
بل يمكن القول، ان المقاومة وكل القوى الوطنية العراقية هي الاخرى صارت تواجه تحديا حقيقيا وكبيرا، لتأخرها في انجاز وحدتها ولعدم اتفاقها على استراتيجية محددة للتحرير والبناء، ولاقدام احد قواها على التفاوض مع قوات وسلطة الاحتلال منفردا.
حل الازمات بقتل المدنيين
وفي ظل اختلاط ازمات الأطراف مع بعضها البعض، فالاخطر فيما يجري هو هذا الميل إلى حل الازمات وتحقيق الاهداف السياسية، من خلال ابادة الناس وازهاق ارواحهم، اذ صار امر القتل العشوائي متواصلا ومرتبطا بتأزم الاوضاع السياسية الخاصة بأطراف عديدة، بما يشير إلى ان أصبح مسيطرا على عقول بعض الفئات والأطراف الاقليمية والداخلية، كما هو الحال عليه عند الاحتلال.
لقد اختطت قوات الاحتلال تلك القاعدة اساسا لمواجهتها مع المقاومة العراقية – لتعيد تكرار ذات القاعدة التي سارت عليها في المواجهة مع المقاومة الفيتنامية – وفي ذلك بان يراجع كل الحملات العسكرية التي قامت بها قوات الاحتلال الأمريكية ضد المدن العراقية الصامدة، يجد انها جميعا سارت وفق نمط تأديب السكان الحاضنين للمقاومة – ابطالها وفكرتها- وان تلك الحملات التأديبية قامت على استخدام اقصى سبل الإرهاب العسكري – إلى درجة التمثيل بالمدن وسكانها ومبانيها واعمال كل وسائل الابادة والهدم إلى أقصى درجة- لتحقيق هدف عقاب المدن على احتضان المقاومة، كما ان من يراجع سيرة قوات الاحتلال يجد انها كانت وراء ظهور الميليشيات ودعمها بالمال والسلاح، وهي لا وظيفة حقيقية لها الا استخدام وسائل القمع والقتل ضد المواطنين المدنيين، وكذا يبدو مهما ايضا الاشارة إلى ان اعمال القتل والاغتيال الفردي كانت إحدى وسائل تحقيق الاهداف السياسية للاحتلال من خلال الشركات الامنية وفرق الموت.
والآن يبدو الخطر الحقيقى، هو ان إبادة العراقيين صارت اولوية اعلى في اساليب عمل الاحتلال، اذ تلك القوات تقلصت قدراتها على الفعل في الشارع بعد انسحابها من الشوارع إلى القواعد لم يعد لديها النمط السابق من السطوة العسكرية في الشوارع، وكذا الحال بالنسبة للسلطة المحلية التي شكلها الاحتلال، والتي لا تملك ارضية او سيطرة سياسية واعلامية على الشارع، ولم يعد امامها في ظل الازمات الطاحنة التي تعيشها الا استخدام هذا السلاح التخويفي لتبدو هي المنقذ وصاحبة السلطة الى تستهدف فرض الامان. وبعض أطراف السلطة لم يعد في يدها الا استخدام نفس السلاح لاستعادة الحشد الطائفي حولها. وكذا الحال بالنسبة لقادة الحالة الكردية المتعصبة التي تستخدم سلاح الابادة لاحداث تطهير عرقي في المناطق التي تحاول ضمها تحت سيطرتها وسطوتها. وبعض دول المحيط التي تحسب ليوم وقوف العراق على اقدامه الف حساب لا هم لها الا ادخال العراق في دوامة موت طائفي متواصل. وهكذا يبقى ان الشعب العراقي ومقاومته هم من في المواجهة، اذ الشعب هو من يدفع الثمن، ولا يجد الا المقاومة قوة لانقاذه، بينما المقاومة لم تتمكن بعد من جمع صفوفها في الجبهة الوطنية العراقية المتحدة، التي هي صمام الامان للعراق.