لم يلق وطن كالوطن العربي اهتماماً استعمارياً بالغاً كباقي الدول والأوطان الأخرى، لقد تفنن الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والهولندي والبرتغالي والأمريكي والإيراني في إيذاء هذا الوطن الذي جعل الله من أرضه أفضل الأراضي إيماناً، وأكثرها ثروةً، وأعظمها تاريخاً، هذا الوطن الذي تدرج على أرضه الأنبياء والرسل، وسارت منه الجيوش زاحفةً لنشر كلمة الله العُليا، ولتحرير الإنسان في الكون كله من عبودية الإنسان ورجس الأوثان. فقد أعطى هذا الاستعمار إلى هذا الوطن كل ما في جعبته من تسلط وقتل وإرهاب وسرقات، لم يرحم إنسانه ولا ترابه، وكانت أولى جرائمه هي تجزئة الوطن العربي إلى أقطار ودويلات، تتسم بالضعف والهوان، ويجمعها العداء ويزعجها الاتحاد والتضامن، يتسلط على مقدراتها الإنسانية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية حُكام، يَجمعهم حُبهم لخدمة ولي نعمتهم، ويُفرقهم حُبهم لشَعبهم.
وبعد أن كان العرب أمة عربية واحدة أصبحت بفعل جريمة الاستعمار الغربي أقطاراً متعددة، وبذلك أصبحت هذه الأمة ــ أي الأقطار المتفرقة ــ وقوداً سهلاً للمصالح الاستعمارية، في الوقت الذي غابت فيه عن هذه الأمة الخطط الإستراتيجية العربية المشتركة لمواجهة كُل مشاريع التهديد الاستعماري التي استهدفت هذه الأمة، وتستهدف ما تبقى من ثرواتها وتركيع مَن لم يركع لإملاءاتها، وجعلها دويلات أكثر ضَعفاً ذات أساس عرقي وطائفي. وبذلك غاب عن هذه الأقطار وعن حكامها كل ما هو جامعٌ وثبت كل ما هو مُفرق، وبدلاً من أن تستفيد من ثرواتها البشرية والاقتصادية في تحقيق مستقبل مشرق لها ولشعبها، أصبحت هذه الثروات وسيلةً للتبعية، غير آبهة من شراسة هجمة المستعمر العدوانية من أمريكية وصهيونية على فلسطين والعراق كنموذج للاحتلال. فقد مدت الأنظمة العربية الحاكمة يدها لمساعدة قوات الاحتلال الأمريكية لاحتلال العراق؛ وها نحن نرى نتائج هذا الاحتلال الذي سيدخل عامه السادس؛ وهاهم ذهبوا إلى أنابوليس وها هي قوات العدو الصهيوني تقتل وتذبح في أبناء الشعب الفلسطيني؛ فهل هناك مستقبل أكثر خطورة لوطننا العربي أكثر من هذا؟!
ومع الأسف فالكثير من حُكام ومسؤولي أقطارنا العربية ما زالوا يتحدثون عن الاتحاد والتضامن؛ فعن أي إتحادٍ وتضامنٍ هُم يتحدثون بعد أن أضاعوا عوامل القوة والمناعة لهذا الوطن الكبير؟ ومن حقنا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، كيف نستطيع أن نعالج أزماتنا العربية؟ وحكوماتنا العربية غير قادرة على تيسير أمورها بنفسها؟ وشيوخ ديننا ما زالوا يتبادلون التجريح والاتهامات من على الفضائيات التلفزيونية والإذاعات العربية؟ ورجال أمتنا ملوا من انتظار قطار التضامن العربي؟ والكثير منهم يئسوا من وصوله؟ ونساء أمتنا ما زلن قابعات تحت إمرة الرجل العربي الذي لم يتحرر بعد؟ وشبابنا ضائع في وطن يكاد يفقد هويته قريباً؟ وكيف نعالج أزماتنا العربية وأموال نفطنا العربي أصبح طعاماً شهياً على الموائد الغربية والصهيونية؟ وكيف نعالج هذه الأزمة وأمتنا العربية تعيشُ بؤساً في الحرية والديمقراطية وفي الحقوق الإنسانية؟ وكيف يكون ذلك والأجنبي في ديارنا العربية أصبح مشاركاً لنا في حقوقنا السياسية والاقتصادية؟
لقد نجح الاستعمار من ''سايكس بيكو'' إلى ''سايكس بوش'' في تغزير جراحات الأمة، وساهم بالتعاون من الأنظمة العربية في تغييب عوامل المنعة والقوة لأقطارنا، وشارك مع الحكومات العربية في إبعاد المواطن العربي عن حقوقه السياسية، وسلبه نعمته الاقتصادية، وتجريده من الحقوق الإنسانية. ورغم ذلك فإن هذه الأنظمة لم تستطع أن تدافع عن نفسها، ولم تُنم أقطارها، وظل أمنها مرهوناً بسياسة القوى الاستعمارية.
فالعراق قبل عشرين عاماً كان قطراً عربياً نموذجاً للأقطار العربية، في سياسته وقوته واقتصاده، وفي جيشه وفي استخدام أموال نفطه، وكان على الأنظمة العربية أن تقتدي به. هذا النموذج لم ترض عنه اليهود ولا النصارى؛ لأنه رفض التخندق معهم، وفضح خططهم السياسية، ولم يخضع لاستراتيجياتهم الاقتصادية، ولم يقبل العراق بمشروع الشرق الأوسط الجديد بديلاً عن الوطن العربي سيادةً واستقلالاً ومنهجاً وفكراً وحضارةً. عندها أدرك المعتدون أن هذا النهج يتقاطع مع أهدافهم وسياساتهم ومخططاتهم الاستعمارية، فقرروا إزالته، وتغيير هويته العربية، وتحجيم دوره. لذا، فإن كل قطر عربي بعيد عن هذا النموذج اعتبر حليفاً ومتعاوناً، وهو أحد عوامل هواننا وضعفنا وغياب عوامل قوتنا ومناعتنا العربية.
نشر في : جريدة الوطن