منذ فترة، كنت أتحدث مطولا مع أحد أساتذتي الكبار، وهو مفكر مصري مرموق، عن الأوضاع في مصر من مختلف الجوانب. تطرق الحديث في جانب منه إلى مسألة الأموال الطائلة التي تقدمها أمريكا إلى منظمات وجمعيات وصحف وجهات شتى في مصر.
قال لي: إن هذه الأموال التي تدفعها أمريكا جعلت من مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من القضايا الشبيهة، تجارة بمعنى الكلمة، انخرط فيها كثيرون، بمن في ذلك كثير من اليساريين للأسف.
سألته: كيف؟
قال: أنت تعرف فلانا وفلانا وفلانا..، وذكر لي أسماء البعض ممن أعرفهم جيدا. قلت: طبعا أعرفهم. قال: أنت بعيد عن مصر منذ سنوات طويلة، ولعلك لا تعرف أن هؤلاء وغيرهم، أحوالهم المالية تغيرت، غير ما كنت تعرفه عنهم تماما، بل ان بعضهم أصبحوا من الأثرياء، والسبب هو اشتغالهم بهذه التجارة.. تجارة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
مرة أخرى، سألته، كيف؟
قال: الموضوع أصبح سهلا. ما عليك سوى أن تفتح "دكانا"، أقصد أن تنشئ جمعية أو منظمة، وتعلن أنها سوف تنشغل بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو تتبنى قضايا المرأة، أو الشفافية ومحاربة الفساد، أو الدفاع عن الفكر المعتدل ومواجهة التشدد، وما شابه ذلك، ثم تطلب تمويلا من جهة أمريكية أو أوروبية، وستحصل على الأموال.
وأضاف أستاذي: عمليا، وباستثناءات قليلة جدا، هذه جمعيات ومنظمات وهمية تقريبا، بمعنى أنها لا تفعل شيئا على الإطلاق. كل ما في الأمر أنها تعد تقريرا عن مشاريعها التي تعتزم تنفيذها، وتقارير تقدمها بعد ذلك عن إنجازاتها التي من المفترض أنها حققتها، وكل هذا على الورق فقط. بل ان بعضهم حين يطلبون منهم مثلا رؤية "الجمهور" الذي خضع للبرامج الوهمية هذه، لا يترددون في استئجار بعض الأفراد بمبالغ زهيدة لحضور المناسبة. وكما ترى، أصبحت تجارة بمعنى الكلمة كما قلت لك.
تذكرت هذا الحديث مع أستاذي الكبير فور أن قرأت هذا الخبر قبل أيام.
الخبر يقول إن "المسئولين في هيئة المعونة الأمريكية في القاهرة عقدوا اجتماعا مع ممثلين لعشرات (لاحظ عشرات) من الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية، الذين كانوا قد تقدموا بطلبات للحصول على أموال تتعلق بمراقبة الانتخابات القادمة في مصر ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان".
ويضيف الخبر ان "المسئولين عن هيئة المعونة الأمريكية أعطوا لهؤلاء تعليمات حول طبيعة المشروعات المطلوبة، وحول كيفية كتابة التقارير عن المشروعات المقدمة للحصول على أموال المعونة". حدث هذا على أساس أنه سوف يتم البت في تمويل هذه المشروعات في شهر مارس القادم.
إذن، الذي حدث هو على النحو التالي:
عشرات من أصحاب "دكاكين" الجمعيات والمنظمات الأهلية، تقدموا بطلبات رسمية للحصول على أموال من المعونة الأمريكية بحجة أنهم يعتزمون مراقبة الانتخابات القادمة في مصر.
المسئولون الأمريكيون عقدوا لهم اجتماعا جماعيا، كي يعطوهم الأوامر والتعليمات والإرشادات، ويرسموا لهم الخطط المطلوبة ليكونوا أهلا لتلقي الأموال الأمريكية.
هذا مشهد عجيب جدا يلخص هذه الظاهرة بشكل بليغ. أعني ظاهرة تجارة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
بالطبع، كما نعلم هذه الظاهرة موجودة في كل الدول العربية بلا استثناء.
هي ظاهرة في منتهى الخطورة على دولنا ومجتمعاتنا العربية.
أمثال هؤلاء الذين ذهبوا ليتسولوا الأموال الأمريكية بدعوى مراقبة الانتخابات، وأمثالهم في كل الدول العربية، ليسوا، في تقديري الشخصي، مجرد تجار ديمقراطية وحقوق إنسان، هم أسوأ وأخطر من هذا بكثير جدا.
للحديث بقية
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.