من الصعب الحديث عن حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، والذي يبدأ تأسيسه في لبنان إلى بداية الخمسينات من القرن الماضي من دون التوقف أمام جملة ملاحظات.
الملاحظة الأولى: عمق الارتباط بين فرع البعث في لبنان وبين الحزب الأم على مستوى الوطن العربي، بكل ما مر به من تطورات وانجازات وانتكاسات وانشقاقات، وهو ارتباط لا يفسره فقط كون البعث قام منذ تأسيسه على فكرة التنظيم القومي الواحد، بل أيضاً تفسّره خصوصيات جيو سياسية وتاريخية جعلت من لبنان بكل مدارسه الفكرية وتياراته السياسية، شديد التأثر بما يجري حوله في المنطقة العربية، لاسيّما سوريا.
الملاحظة الثانية: النقص الفادح في الوثائق الضرورية التي يمكن الاستناد إليها في الكتابة عن حزب البعث في لبنان، وهو أمر اعترف فيه محرر سلسلة "نضال البعث" (الجزء الحادي عشر، والخاص بالقطر اللبناني، والصادر عن دار الطليعة) مشيراً إلى أن هناك "وثائق كثيرة مفقودة بسبب المشاكل الأمنية والعمل السري في بعض الفترات، وبسبب الانشقاقات عن الحزب في فترات أخرى".
الملاحظة الثالثة: تحول الحزب في لبنان سريعاً إلى عدة تنظيمات بسبب الانشقاقات المتتالية التي عرفها الحزب على المستوى القومي بعد مؤتمره القومي الثالث (1959)، والرابع (1961)، والخامس (1963)، والسابع (1964)، وصولاً إلى الانشقاق الأكبر الذي رافق حركة 23 شباط (1964) في دمشق والذي أدى إلى وجود حزبين بعثيين أحدهما تقوده قيادة قومية استقرّت بعد ذلك في بغداد منذ عام 1968 حتى عام 2003 (احتلال العراق)، والآخر تقوده قيادة قومية ما زالت مستقرة في دمشق والتي تطرح تساؤلات حول مصيرها إذا جرى العمل بقانون السوري الأحزاب الجديد الذي يمنع على أي حزب في سوريا أن يكون فرعاً لحزب خارج القطر، أو أن يكوّن له فروعاً خارج القطر.
الملاحظة الرابعة: إن هذه الانقسامات التي شهدها حزب البعث على المستوى القومي لم تترك آثاراً تنظيمية على فرع الحزب في لبنان فقط بل كان لها انعكاساتها السياسية أيضاً حيث كان لكل تنظيم بعثي سياساته وتحالفاته وبرامجه التي كثيراً ما كانت تتعارض مع التنظيم الآخر، مع ضرورة الإقرار هنا أن حجم هذه التناقضات رغم حدّتها أحياناً، لم تدفع التنظيمين المتعارضين إلى حدود الصراع الدموي، كما جرت العادة في الحالة اللبنانية، بل بقي كل تنظيم يعلن تمايزه الواضح عن التنظيم الآخر في مجالات السياسة والإعلام والتحالفات دون أي اشتباك أو صدام يكاد يكون مشهداً يومياً في لبنان.
الملاحظة الخامسة: في ضوء الملاحظات السابقة يبدو من الصعب كثيراً الحديث عن حزب البعث في لبنان في صفحات محدودة، أو الحديث عنه بمعزل عن التحولات الضخمة التي عرفها لبنان والمنطقة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فالاختصار هنا قد يكون مخلاً وغير منصف، بل مضللاً في بعض الأحيان، ذلك إن كل تنظيم بعثي أو ذي جذور البعث، يحتاج إلى كتاب كامل لسرد تاريخه وعرض مواقفه والتعرف إلى تنظيماته وأعضائه ودراسة تعثر تجربته.
بعد هذه المقدمة لا بد لنا في هذه العجالة من أن نتوقف أمام ثلاثة مراحل في تاريخ البعث في لبنان:
1. التأسيس
2. انعكاسات الانشقاقات عليه
3. الواقع الحالي
التأسيس
يمكن القول أن الخلايا الأولى لحزب البعث في لبنان قد انطلقت مع أوائل الخمسينات، رغم وجود بعثيين شاركوا في المؤتمر التأسيسي للحزب في دمشق في 7 نيسان 1948، وكلهم كانوا طلاباً في جامعة دمشق أو في مدرسة التجهيز الأولى حيث كان مؤسسا البعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار مدرسين فيها بعد عودتهما من الدراسة في فرنسا أواخر الثلاثينات، من هؤلاء البعثيين نذكر د. علي جابر (النبطية)، ود. زيد حيدر (بعلبك)، وقد وصل الاثنان في فترات متباعدة إلى عضوية القيادة القومية لحزب البعث، كما نذكر عبد الله سكرية (الفاكهة – البقاع الشمالي)، وحسين دلول (شمسطار – بعلبك)، ولكن لا معلومات تشير إلى دورهما في تكوين الحزب في لبنان.
أما البعثيون الأوائل كما يشير السفير السابق وعضو قيادة قطرية بارز جهاد كرم في مقالة له لم تنشر، فقد تكونت خلايا الحزب الأولى منهم في الجامعة الأمريكية على يد طلاب عرب كالدكتور سعدون حمادي (العراق)، وعلي فخرو (البحرين) وجمال الشاعر (الأردن)، والاقتصادي اللبناني البارز د. محمد عطا الله، وفي بنت جبيل عبر حلقات فكرية وثقافية في دارة الشاعر الجنوبي البارز موسى الزين شرارة حيث كان ابنه غسان شرارة (عضو قيادة قومية في أوائل الستينات) محوراً لتلك الحلقات التي امتدت في معظم مناطق الجنوب.
ومن الخلايا الأولى أيضاً تلك التي أشرف على إعدادها وتثقيف أعضائها المدرّس السوري القادم من السلمية إنعام الجندي الذي ترافق عمله التأسيسي مع تنام واضح في دور حزب البعث في سوريا في مناهضة حكم أديب الشيشكلي (1951 – 1954)، ومع لجوء مؤسسي البعث عفلق والبيطار، ومعهما مؤسس الحزب العربي الاشتراكي أكرم الحوراني إلى لبنان، حيث تكونت بوادر الوحدة بين الحزبين (البعث العربي والعربي الاشتراكي) في حزب البعث العربي الاشتراكي، وحيث تفاعل المؤسسون مع قيادات سياسية وشبابية في لبنان بعضها بقي حليفاً لسنوات لحزب البعث ككمال جنبلاط، وأركان حزب النداء القومي العربي، وبعضها انتسب إلى الحزب بعد سنوات ولعب دوراً هاماً فيه، كالمحامي جبران مجدلاني (أحد مبعوثي الحزب إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر)، وبعضها بقي صديقاً قريباً للبعث ومؤسسيه متفاعلاً فكرياً وسياسياً من موقع مستقل مع مراحل نضاله كالمفكر العربي المعروف منح الصلح الذي عامله الكثيرون كبعثي رغم أنه لم ينتم رسمياً للحزب.
عقد الحزب طيلة عقد الخمسينات من القرن الماضي خمس مؤتمرات قطرية لم تتوفر حتى الآن وثائقها ومقرراتها إلاّ أن هذا لم يمنع الحزب من أن يتمتع بدينامية نضالية وسياسية عالية، فانتشرت تنظيماته في العاصمة بيروت، وفي طرابلس وصيدا ومحافظات الجنوب، كما في بعلبك والهرمل وبلدات البقاع الغربي، مع استقطاب لعدد محدود من الشباب في مناطق متفرقة من جبل لبنان.
كان الطابع الطاغي على نضال الحزب في تلك الفترة، لاسيّما عشية قيام الوحدة المصرية – السورية في شباط 1957، هو النضال الطلابي المرتبط بالمعركة القومية ضد الأحلاف والمشاريع الاستعمارية كما العدوان الثلاثي على مصر بالإضافة إلى تحركات ذات طابع طلابي في بعض المدارس والجامعات.
في هذه المرحلة التي تمتد حتى عام 1958 يمكن أن نتوقف أمام بعض المحطات الهامة:
1. دور البعثيين اللبنانيين في الدعم السياسي والإعلامي لنضال رفاقهم ضد حكم أديب الشيشكلي في سوريا حتى سقوطه في 24/2/1954.
2. دور لافت في مقاومة حلف بغداد، لاسيّما في التظاهرة الشهيرة أمام الجامعة الأمريكية في بيروت حيث استشهد حسان أبو إسماعيل، وأصيب مصطفى نصر الله بجراح أقعدته طيلة حياته، وحيث أقدمت الجامعة الأمريكية على طرد عدد من طلابها آنذاك بينهم طلاب بعثيون.
3. دور لافت في تجنيد المتطوعون للمشاركة في الدفاع عن مصر بوجه العدوان الثلاثي (البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي) في 29/10/1956، حيث توجه المتطوعين البعثيون مع غيرهم من المتطوعين إلى معسكرات للتدريب في حمص في سوريا.
4. المشاركة في كل التحركات الشعبية للمعارضة اللبنانية لحكم كميل شمعون الذي انحاز إلى ما اعتبره معارضون صف حلف بغداد ومشروع ايزنهاور وصولاً إلى المشاركة في جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت آنذاك ابرز رموز المعارضة.
5. خوض معركة انتخابية تأسيسية في مدينة طرابلس عبر طبيب قومي شاب محبوب من أبناء مدينته، وله خدمات مقدّره عبر مؤسسات أهلية فاعلة هو الدكتور عبد المجيد الرافعي الذي بات فيما بعد من أبرز قياديين البعث، وأول نائب بعثي يدخل البرلمان اللبناني عام 1972، بعد أن أحرز أعلى الأصوات في عاصمة الشمال آنذاك.
6. دور في تعبئة الأوساط الشعبية اللبنانية لدعم قيام الوحدة العربية بين مصر وسوريا، خصوصاً أن أول من أطلق فكرة الاتحاد بين البلدين كان مؤسس البعث وأمينه العام ميشيل عفلق في 17 نيسان 1956، (خطاب في ذكرى الجلاء)، واشترط أن يكون العمل للاتحاد شرطاً لمشاركة الحزب في أي حكومة سورية، ولقد لعب البعث مع حركات وشخصيات قومية أخرى في لبنان، دوراً بارزا في حشد مسيرات التأييد للوحدة التي انطلقت بإعداد غفيرة من كل لبنان إلى دمشق، لاسيّما لدى زيارة الرئيس عبد الناصر إلى سوريا.
7. إن اتساع الحضور الشعبي للحزب ساهم في مشاركة فعّاله في الانتفاضة الشعبية المسلحة (أيار/مايو 1958) ضد حكم شمعون، لاسيّما في طرابلس وبيروت ومناطق واسعة من الجنوب والبقاع، مما أدى إلى سقوط أول شهداء الحزب في لبنان خلال تلك الثورة هو جلال نشوئي في طرابلس.
8. رغم انشغال البعثيين في لبنان بالنضال القومي والتحريري إلى مدّ كبير، ونموهم التنظيمي الواسع في أجواء المدّ القومي في أواخر الخمسينات، غير أنهم لم يغفلوا الجانب الاجتماعي من النضال، فبدأت تصدر بيانات تتناول الشأن المعيشي والاجتماعي وأخذ البعث يشكل مكاتبه العمالية والمهنية، وأخذ يحتل حيّزاً معقولاً في التركيبة النقابية اللبنانية، سواء من خلال علاقته ببعض الاتحادات في العاصمة، أو من خلال دور بارز في صيدا من خلال المجموعة المؤسسة لاتحاد ونقابات عمال الجنوب وعلى رأسها البعثي آنذاك حسيب عبد الجواد الذي تبوأ رئاسة الاتحاد في الجنوب سنوات طويلة قبل رحيله.
9. ومما زاد من انغماس الحزب في الشأن الاجتماعي أيضاً، بداية التوتر في العلاقة بين البعثيين وعبد الناصر بعد أشهر قليلة مع قيام الوحدة بين مصر وسوريا، وتعلق الجماهير الواسع بعبد الناصر، مما أدى إلى نوع من الانكفاء في دور الحزب القومي لصالح البعد الاجتماعي وهو الذي يفسّر خروج ظاهرتين إلى سطح الحياة الحزبية لعبتا دوراً كبيراً فيما بعد. أولهما النقاش حول "يسارية" الحزب وصولاً إلى مرحلة تبني مجموعات كبيرة من القياديين والأعضاء الفكر الماركسي اللينيني باسم الاشتراكية العلمية، وثانيهما حول العلاقة بين "القطري والقومي"، في الحزب ما لبثت أن تحولت بعد الانفصال السوري عن الوحدة (28/9/1961) إلى دعوة لاستقلالية فروع الحزب في الأقطار عن القيادة القومية المركزية والدعوة إلى مجلس تنسيق بين هذه الفروع.
ولقد لعب القياديون البعثيون في لبنان آنذاك، وكانوا مجموعات فاعلة متقدمة فكرياً وسياسياً ولبنانية دوراً هاماً في الترويج لهاتين الظاهرتين اللتين تحكمتا بمسار الحزب في لبنان وخارجه إلى زمن طويلة.
الانشقاقات
مع تعثّر العلاقة بين البعث وعبد الناصر بعد أشهر على قيام الوحدة المصرية – السورية، بدأت التباينات تعصف داخل صفوف حزب البعث عموماً، وتنعكس بشكل خاص على الحزب في لبنان.
الانشقاق الأول هو ما تسميه الأدبيات البعثية "بانشقاق الريماوي" نسبة إلى عبد الله الريماوي أبرز شخصيات الحزب في الأردن وأمين سر قيادته القطرية، ونائب رام الله عام 1957، ووزير خارجية حكومة سليمان النابلسي.
لم يكن الريماوي وحده في الخط المغاير لخط البعث والمعترض على خلاف البعث مع عبد الناصر، بل شاركه العديد من القيادات والأعضاء، لاسيّما في الضفة الغربية والأردن، وبعد المؤتمر القومي الثالث للبعث (صيف 1959)، والذي فصل الريماوي وعدداً من رفاقه الذين شكلوا ما عرف بالقيادة الثورية لحزب البعث التي استقطبت بعض الناشطين البعثيين في بعلبك وطرابلس وبيروت. لكن هذه القيادة انكفأت لمصلحة فكرة (الحركة العربية الواحدة) التي دعا إليها الرئيس عبد الناصر وكان الريماوي أحد أبرز منظريها.
بعد عام على ما سمي بانشقاق الريماوي، وأثر النكسة التي أصابت التيار القومي العربي في العراق بعد أشهر على ثورة 14 تموز 1958 وتعرّض البعث لمواجهات ولملاحقات دموية وحادة من قبل نظام عبد الكريم قاسم وحلفائه الشيوعيين، طغى على سطح البعث ملامح انشقاق جديد، قاده هذه المرّة فؤاد الركابي أمين سر تنظيم البعث في العراق وممثل البعث في أول حكومة تم تشكيلها بعد ثورة 14 تموز، والذي كان متعاطفاً مع الريماوي وأكثر قرباً إلى الرئيس عبد الناصر في خلافه مع البعث.
تمّ تكريس هذا الانشقاق رسمياً في المؤتمر القومي الرابع لحزب البعث الذي انعقد في بيروت والذي أعلن في أحد قراراته فصل الركابي وتشكيل قيادة جديدة في العراق.
لم يكن لفصل الركابي على واقع البعث في لبنان من أثر مباشر على الحزب، ولكنه بعد انشقاق الريماوي أكد اتساع الهوة بين البعث وعبد الناصر مما انعكس سلباً على علاقة البعث في لبنان بقطاعات واسعة من الجماهير اللبنانية الشديدة التعلّق بجمال عبد الناصر، بحيث يمكن القول أن البعث في لبنان قد دخل مرحلة دقيقة من حياته، هي مرحلة شبه القطيعة بين طليعة حزبية مناضلة مثقفة مبادرة وبين الجماهير التي كانت تسبح في بحرها وتتنفس في فضائها.
جاء الانشقاق الثالث عام 1962 بعد الانشقاق الثاني بعامين فقط، وإثر نكسة الانفصال التي وصفها مؤسس البعث ميشيل عفلق بأن أخطر ما فيها هو "إنها تحقيق للتجزئة أي جعلها حقيقة وحقاً".
كان زلزال الانفصال كبيراً على البعث في كل مكان، وكان لفرعه اللبناني النصيب الوافر من تداعياته.
لقد توزع البعثيون عموماً، وفي سوريا ولبنان على وجه التحديد إلى ثلاث تيارات في تعاطيها مع الانفصال. أولهما تيار دعا إلى التعامل مع الانفصال كواقع، داعياً إلى التأكيد على أولوية الديمقراطية على الوحدة، منتقداً ما اعتبره "رجحاناً معنوياً" للوحدة في فكر البعث، مشدداً على ضرورة إجراء مراجعة شاملة، فكرية وسياسية وتنظيمية لحزب البعث، والقطيعة مع قيادات تاريخية فيه. والجنوح بالبعث، فكراً ونضالاً نحو اليسار ذي النكهة الماركسية.
كان أبرز أركان هذا التيار من خارج سوريا مجموعة القياديين اللبنانيين المتقدمين فكرياً ونضالياً، والتي اعتبرت أنها قامت بأعباء بناء الحزب على مدى عقد كامل من الزمن، وحمت خياراته القومية المستقلة أمام انشقاقي الريماوي والركابي، وقد ضمت تلك المجموعة آنذاك غسان وطلال شرارة (الجنوب)، عبد الوهاب شميطلي (بيروت)، فؤاد ذبيان (الشوف)، غالب ياغي (بعلبك)، وحسيب عبد الجواد (صيدا)، ومحمد الشلبي (طرابلس) وآخرون.
أما التيار الثاني، فلم يكن له امتداداته اللبنانية، فقد تجلى في سوريا على يد بعثيين رأوا أن الحل هو بعودة الوحدة، وأن النضال يجب أن يركز على إسقاط الانفصال دون قيد أو شرط، ولقد صُنف هؤلاء البعثيون الوحدويون بالناصريين، وبرزوا فيما بعد 8 آذار 1963 (سقوط الانفصال على يد التحالف البعثي الناصري) باسم حركة الوحدوين الاشتراكيين.
أما التيار الثالث والذي كان على رأسه ميشيل عفلق مؤسس البعث ويسانده تنظيم الحزب في العراق بقيادة علي صالح السعدي وحازم جواد وطالب شبيب وتنظيم الحزب في الأردن وعلى رأسه منيف الرزاز وأمين شقير، وبعض القياديين البارزين في لبنان كجبران مجدلاني وعبد المجيد الرافعي، وخالد البشرطي ود. علي جابر، فقد رأى الانفصال مؤامرة استعمارية رجعية لا بد من إسقاطها وإعادة الوحدة بين مصر وسوريا على أسس تستفيد من ثغرات التجربة السابقة.
حسم المؤتمر القومي الخامس للحزب الذي انعقد في حمص في أيار/مايو 1962، خيار الحزب حين انحاز إلى التيار الثالث، مما أدى إلى خروج معظم أعضاء القيادة الحزبية اللبنانية من التنظيم القومي، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من البعثيين السوريين، وعمد البعثيون الخارجون من التنظيم إلى تبني فكرة إلغاء المركزية القومية في التنظيم وقيام مجلس تنسيق بين الأقطار، فأطلق عليهم البعثيون صفة "القطريين" رغم أنهم لم يكونوا أصحاب رؤية واحدة.
بخروج معظم القياديين والكوادر الحزبية في لبنان من التنظيم وعملهم بشكل مستقل ثم انفراط عقدهم، جاءت القيادة القومية المنبثقة عن مؤتمر حمص الخامس لتضم أربعة من لبنان (المحامي جبران مجدلاني من بيروت، والطبيب علي جابر من النبطية، المحامي اللبناني خالد العلي من عكار، والمهندس خالد اليشرطي الفلسطيني المقيم في لبنان والمتحدر من عائلة دينية مرموقة لها طريقة "الشاذلية" يتبعها كثيرون في الأقطار العربية)، وقد لعب المهندس الراحل اليشرطي دوراً رئيسياً في تأسيس التنظيم الفلسطيني داخل حزب البعث بعد المؤتمر القومي الخامس (1962) والذي كان يطمح إلى تطوير العمل الفلسطيني باتجاه الكفاح المسلح.
ولقد أصدرت القيادة القومية قراراً بتشكيل قيادة قطرية مؤقتة تشرف على إعادة تنظيم الحزب، واختارت لأمانة سرها محام من بيروت هو محمد خير الدويري، وقد هيأت هذه القيادة لانعقاد المؤتمر القطري السابع للحزب في لبنان والذي انعقد ما بين 6 – 8 كانون الثاني/يناير 1963، أي قبل شهر واحد فقط من تسلّم البعث السلطة في العراق للمرة الأولى في 8 شباط/فبراير 1963 (أي ما عرف بثورة 14 رمضان)، وقبل شهرين فقط من وصول البعث مع قوى قومية وناصرية إلى السلطة في سوريا على أنقاض حكم الانفصال في 8 آذار/مارس 1963.
وبقدر ما أعطى وصول حزب البعث إلى السلطة في بلدين بالغي الأهمية في الوطن العربي (كالعراق وسوريا) دفعاً لهذا الحزب في كل أقطار الوطن العربي، لاسيّما لبنان الشديد التأثر بما يدور حوله، إلاّ أن وصول الحزب إلى السلطة في البلدين كان له أيضاً مضاعفاته السلبية على الحزب عموماً وفي لبنان خصوصاً.
فلقد أدى تكريس الانقسام بين البعث وعبد الناصر بعد فشل محادثات الوحدة الثلاثية (المصرية – السورية – العراقية) وانهيار ميثاق 17 نيسان 1963 الذي أقرّ قيام وحدة اتحادية ثلاثية (كانت ستغيّر وجه المنطقة لو كتب لها النجاح)، إلى المزيد من العزلة الشعبية على الحزب عموماً، وعلى البعث في لبنان خصوصاً، لاسيّما في ظل علاقات سياسية متينة بين العديد من الساسة اللبنانيين وبين القاهرة، وفي ظل حماسة شعبية منقطعة النظير لجمال عبد الناصر في لبنان.
لكن الزلزال الأخطر الذي انعكس على البعث في لبنان فكان في مسلسل الانقسامات والانقلابات التي جرت داخل الحزب والسلطة في العراق وسوريا، بعد أسابيع على "الربيع البعثي" في بغداد ودمشق، وبعد المؤتمر القومي السادس للبعث الذي انعقد في دمشق على مدى ثلاثة أسابيع وكان الأطول مدة بين كل مؤتمرات البعث.
في هذا المؤتمر العاصف تجلّت خارطة التيارات التي تتجاذب الحزب والسلطة في العراق وسوريا والتي تنعكس على واقع الحزب في كل الأقطار، لاسيّما لبنان.
كان البعثيون في العراق موزعين على ثلاث تيارات:
أولها بقيادة علي صالح السعدي، هو تيار الأغلبية بين البعثيين المدنيين، وكان متحمساً لتبني "الاشتراكية العلمية" هازئاً من فكر البعث وحديثه عن "اشتراكية عربية".
وثانيها بقيادة الثنائي حازم جواد وطالب شبيب والذي كان مدعوماً من مدنيين وعسكريين معارضين لمسار السعدي ورفاقه ونهجه وأعمال الحرس القومي.
وثالثها: تيار محدود التأثير حينذاك عبّر عنه خلال المؤتمر الشباب البعثي صدام حسين (لم يكن عضو في قيادة الحزب في المؤتمر) مدعوماً من اللواء أحمد حسن البكر، رئيس الوزراء آنذاك، وما يمثله من ثقل عسكري وسياسي، وحذّر من مخاطر الصراع بين الجناحين على مستقبل الحزب والسلطة في العراق، وهو تحذير أثبتت الأحداث صحته بعد أسابيع على انعقاد المؤتمر، حيث تتالت تطورات أدت إلى سقوط حزب البعث من السلطة في 18/11/1963، وهو لم يحكم سوى تسعة أشهر وعشرة أيام، ويقال أن تحذير صدام حسين المبكر لفت الانتباه إليه ودفع القيادة القومية إلى تكليفه بإعادة بناء تنظيم البعث في العراق بعد ذلك المؤتمر.
أما في سوريا فقد كان هناك أيضاً تيارات ثلاث:
أولهما يتمثل بعدد من أعضاء قيادة الحزب في سوريا ممن تحالفوا مع تيار السعدي في العراق وعلى رأس هؤلاء كان السيد حمود الشوفي الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بحمدي عبد المجيد القيادي العراقي الذي كلفته القيادة القومية بعد المؤتمر القومي الخامس في حمص عام 1964 بإعادة بناء تنظيم الحزب في سوريا.
ثانيهما يتمثل بما كان معروفاً باللجنة العسكرية البعثية التي تم تشكيلها من ضباط بعثيين سوريين خدموا في مصر أيام الوحدة، وكان من أبرزهم حافظ أسد، صلاح جديد، محمد عمران.
رغم تباين الرؤى بين أعضاء اللجنة إلاّ أن ما كان يجمعهم الشعور أنهم مؤهلون لإنقاذ البعث من الترهل الذي أصابه بفعل الإدارة السابقة لأموره، كما وجد هؤلاء بين بعثيين قدامى معارضين لقيادة الحزب التاريخية حلفاء مدنيين لهم.
التيار الثالث كان على رأسه مؤسس البعث وعدد من البعثيين السوريين والعراقيين والعرب وخصوصاً من البعثيين اللبنانيين البارزين من أعضاء القيادة القومية بالإضافة إلى بعثيين برزت أسماؤهم فيما بعد كليلى بقسماطي ونقولا الفرزلي وجهاد كرم ود. حسن الشريف وآخرين.
وعلى الرغم أن الخلافات لم تمس صراحة قضايا تخص شؤون السلطة، إلاّ أن ناراً كانت تشتعل تحت الرماد ليظهر شررها فيما بعد في بغداد ودمشق ولتنعكس بأكثر أشكالها حدة في لبنان.
كان التياران الأول (تيار السعدي)، والثاني (تيار اللجنة العسكرية) متفقين على ضرورة التخلّص من القيادة التاريخية للحزب وأن كانا غير متفقين على الأسلوب والتوقيت، لذلك اتخذ الصراع طابعاً فكرياً حاداً تبلور حول نقد عدم "الوضوح النظري" لدى الحزب "وضبابية" الشعارات والأهداف، و"يمينية التوجهات" وصولاً إلى ضرورة اعتماد الاشتراكية العلمية ومفاعيلها في "التحويل الاشتراكي"، "والجيش العقائدي" والحزب القائد، وهي المفاهيم التي طبعت عقوداً من حكم الحزب لبلدين هامين كسوريا والعراق، والتي جاء بعضها متأثراً بالتجربة السوفياتية، ونسختها الستالينية، رغم تناقضها الجوهري مع التعاليم الأساسية للبعث ودستوره الذي ينص على احترام البعث النظام الديمقراطي البرلماني.
واللافت أن من أعدّ ما سمي "بالتقرير العقائدي" للمؤتمر القومي السادس، والذي بات اسمه "المنطلقات النظرية" كان مفكراً شيوعياً بارزاً خرج من الحزب الشيوعي السوري واقترب من البعث، ومفكر شيوعي بارز سابق آخر هو الياس مرقص وشكلا مع عدد من المفكرين البعثيين البارزين آنذاك كجمال الاتاسي وعبد الكريم زهور عدي، د. سامي الدروبي حلقة فكرية سياسية يكتب أعضاؤها مقالات مناهضة للانفصال في جريدة البعث، كما كانوا يصدرون كتاباً دورياً يتضمن دراسات فكرية من إعدادهم.
بعد سقوط حكم البعث في العراق في 8/11/1963 انفرط التحالف المعقود بين اللجنة العسكرية البعثية في سوريا وبين تيار "اليسار" الذي كان يقوده الراحل صالح السعدي، وانعكس هذا الأمر مباشرة في انتخاب قيادة قطرية جديدة للبعث في سوريا خرج منها عدد من أنصار السعدي في القيادة السابقة (الشوفي، أبو صالح، نوفل) وتمت الدعوة إلى المؤتمر القومي السابع للحزب في شباط 1964 الذي قاطعه السعدي ورفاقه ومؤيدوه في العديد من الأقطار ساعين إلى تشكيل حزب البعث اليساري الذي سرعان ما تحول إلى حزب العمال الثوري الاشتراكي، وكان له عدد كبير من المحازبين في لبنان، بينهم أربعة أعضاء من أصل ثمانية من قيادة الحزب في لبنان.
البعثيون الذين بقوا موالين لقيادة الحزب القومية ممثلة بأمينه العام الراحل ميشيل عفلق أعادوا تنظيم الحزب وانتخبوا قيادة قطرية في أوائل عام 1965 اختارت بدورها الراحل الدكتور علي الخليل (الذي انتخب نائباً بعد استقالته من الحزب عن مدينة صور في جنوب لبنان عام 1972، ثم عين وزيراً لعدة مرات حتى وفاته عام 2005) وضمت بين أعضائها كل من جبران مجدلاني، د. عبد المجيد الرافعي، مالك الأمين (الجنوب)، محمد عواضة (البقاع)، خالد العلي (عكار)، والدكتور بشير الداعوق.
شاركت القيادة البعثية الجديدة في المؤتمر القومي الثامن للبعث الذي انعقد في دمشق في نيسان 1965، والذي تميّز أولاً بتقارير سياسية واقتصادية وثقافية وتنظيمية معدة مسبقاً، وكذلك بتقرير عن "نكسة الحزب في العراق" تتضمن مراجعة نقدية لتجربة الحزب الأولى في حكم العراق والتي دامت حوالي 10 أشهر، كما تميّز بالخلاف العميق الدائر بين القيادة التاريخية للبعث ممثلة بأمينه العام المؤسس ميشيل عفلق وبين القيادة القطرية في سوريا التي كانت تضم عدداً كبيراً من العسكريين البعثيين أبرزهم رئيس الدولة الفريق الراحل أمين الحافظ، اللواء الراحل صلاح جديد، واللواء الراحل حافظ الأسد، وكان اللواء الراحل محمد عمران مبعداً عن سوريا حينها. نجم عن هذا الصراع انتخاب الدكتور منيف الرزاز (الأردن) أميناً عاماً للبعث، فيما اعتبر عفلق قائداً مؤسساً، وقد اعتبر ذلك التغيير تسوية بين الجناحية المتعارضين، وهي تسوية لم تدم سوى 7 أشهر أصدرت في نهايته القيادة القومية قراراً بحل القيادة القطرية وتشكيل لجنة حزبية عليا للإشراف على الحزب في سوريا ضمت الراحل صلاح البيطار، وعمران والدكتور الياس فرح والراحل فهمي العاشوري (وزير سابق)، ود. عبد القادر النيال (اقتصادي شاب من حلب)، وتمّ تكليف البيطار بتشكيل حكومة كان اللواء عمران وزير الدفاع فيها.
لم تستكن القيادة القطرية المنحلة في سوريا لهذا القرار الذي اعتبرته انحياز لجناح رئيس الدولة آنذاك أمين الحافظ، فقامت بعد شهرين ويومين (23 شباط 1966) بحركة عسكرية أطاحت بالقيادة القومية واللجنة الحزبية والحكومة، وانشق الحزب داخل سوريا وخارجها إلى جناحين أحدهما يعتبر نفسه متمسكاً بالشرعية الحزبية ورافضاً استخدام السلاح في حلّ الخلافات الحزبية، وآخر مؤيد للحركة الجديدة باعتبارها تجديداً للحزب وتأكيداً على خطه "اليساري" بوجه خط "يميني" تمثله القيادة القومية التي سجن معظم أعضائها بمن فيهم غير السوريين، جبران مجدلاني (لبناني)، علي غنام (سعودي)، بالإضافة إلى مسعود الشابي (تونسي)، كمال ناصر (فلسطيني)، وأخرين، وقد أيّد الحركة الانقلابية اثنان من أعضاء القيادة القومية اللواء حافظ أسد الذي بات وزيراً للدفاع في المرحلة الجديدة، والطبيب الدكتور إبراهيم ماخوس الذي عيّن وزيراً للخارجية.
القيادة القطرية للبعث في لبنان أعلنت منذ اللحظة الأولى لحركة 23 شباط التزامها الشرعية الحزبية ورفضها استخدام السلاح، وعقدت مؤتمراً قطرياً استثنائياً أيّد موقفها، فاغتنمت السلطة اللبنانية هذا الخلاف وقامت باعتقال عدد من أعضاء قيادة الحزب وأصدقائه أبرزهم الخليل والرافعي والأمين والمهندس نقولا الفرزلي، والسيد جو فارس.
بعد أن استتب الأمر لها في دمشق، بدأت القيادة القطرية السورية بالاتصال بالحزبيين في لبنان ودعوتهم للعمل معها في إطار تنظيم قومي آخر للحزب، فتجاوب مع هذه الدعوة اثنان من القيادة القطرية اللبنانية هما مالك الأمين، ومحمد عواضة، وقياديان بارزان هما المهندس عاصم قانصوه (الذي بات وزيراً ونائباً عدة مرات) والمحامي سهيل سكرية وعدد من الحزبيين القياديين السابقين، لاسيّما من تيار "اليسار" الحزبي.
وهكذا تكرّس الانقسام الحزبي في لبنان تماماً، وقام تنظيمان مختلفان أحدهما تابع للقيادة القومية التاريخية، والآخر للقيادة القومية المستحدثة في دمشق إثر المؤتمر القومي التاسع الذي انعقد في أيلول 1966، والذي انتخب له قيادة قومية كان من بين أعضائها اللبنانيين كل من قانصوه وعواضة والأمين.
أما حزب البعث في لبنان فقد لعب دوراً بارزاً في تحمّل أعباء الحزب القومية بعد سقوط حكم البعث في سوريا، فاستقبل عدداً من قادة الحزب في سوريا المتوارين عن الأنظار بينهم عفلق والياس فرح، ثم البيطار والأمين والعيسمي، ود. مسعود الشابي (تونس)، والراحل محمد سليمان، خليفة ألتعايشي (السودان)، كما شكلت قيادته مع قيادة الحزب في العراق (قبل تسلّمه السلطة ومنظمات حزبية أخرى لجنة تحضيرية للمؤتمر القومي التاسع الذي انعقد فيما بعد في شباط/فبراير 1968، وأقرّ اعتماد الكفاح الشعبي المسلح أسلوباً لتحرير الأرض، رافضاً الوصول إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية، مشدداً على قيام جبهة قومية تقدمية لمواجهة هزيمة الأمة في حزيران 1967.
ضمت اللجنة التحضيرية آنذاك من قياديي الحزب في لبنان كل من نقولا الفرزلي، جهاد كرم، الراحل حسين عثمان (رئيس بلدية بعلبك بعد سنتين)، نعيم فهمي (طرابلس)، ومعن بشور أمين سر التنظيم الطلابي للحزب بالإضافة إلى د. فرح (سوريا)، والشابي (الذي اعتذر وعاد إلى تونس)، وسليمان خليفة التعايشي (السودان)، ود. عزّت مصطفى (العراق)، ود. زيد حيدر (سوريا).
نجحت اللجنة التحضيرية في عقد المؤتمر القومي التاسع في لبنان بظروف بالغة السرية بسبب ما كان يتعرض له التنظيم الحزبي داخل لبنان وخارجه، ولعبت في إنجاح ترتيباته مجموعة من البعثيين الشباب اللبنانيين الذين تولوا فيما بعد أدواراً قيادية بارزة داخل الحزب والمجتمع من أبرزهم بشارة مرهج (الذي تولّى أمانة سر قيادة الحزب في لبنان عام 1966، ثم انتخب نائباً ووزيراً لعدة مرات في التسعينات من القرن العشرين)، ورغيد الصلح (الكاتب والأستاذ الجامعي البارز)، والقيادي البارز في العمل الشعبي الراحل أحمد الصوفي (طرابلس)، والمناضل الجنوبي خليل بركات (محام وأمين سر مؤتمر رؤساء بلديات الجنوب)، والصيدلي البقاعي د. حبيب زغيب، والمدرس والعضو السابق في القيادة القطرية حمد حيدر، والنقابي العمالي الراحل راضي فرحات، والقياديان البارزان في الحركة الطلابية آنذاك عماد شبارو ومنصور حريق، وبعثي قديم هو سعيد شعيب.
لم ينحصر دور هذه المجموعة في التحضير للمؤتمر القومي التاسع وفي لعب دور قيادي على مستوى الحزب قومياً فحسب، بل سعت أيضاً إلى التحضير لمؤتمر قطري جديد للحزب، أعتبر مميّزاً على غير مستوى سواء على مستوى التقارير المعدّة وأبرزها تقرير سياسي واقتصادي وثقافي وطلابي، أو على مستوى انتخاب قيادة معظمها من الشباب واختيار أمين سر للقيادة من هؤلاء (رغيد الصلح عام 1968، ثم بشارة مرهج عام 1969)، ناهيك عن انغماسها في تشكيل أطر شعبية وطلابية وعمالية (لجان شعبية لمقاطعة البضائع الأمريكية، منظمة كفاح الطلبة، منظمة كفاح العمال، وأصدر نشرات دورية (كالعربي الجديد)، و"كفاح الطلبة"، "وفجر الكادحين"، بالإضافة إلى متابعة إصدار جريدة "الأحرار" حتى توقفها في أيلول 1966 ثم أعادة صدورها في تشرين الثاني 1969، وقد تولّى رئاسة تحرير الجريدة منذ صدورها عام 1964 عدد من الإعلاميين المستقلين أصدقاء البعث وهم على التوالي الراحل الياس الفرزلي، جان عبيد، رفيق خوري، ثم سليمان الفرزلي، حتى تولى رئاسة التحرير رغيد الصلح.
ولقد لعبت "الأحرار" منذ انطلاقها أدواراً سياسية وإعلامية مهمة كان أبرزها التصدي لحكم "المكتب الثاني" في لبنان، ونشر البلاغات الأولى للعاصفة (الجناح العسكري لحركة فتح)، ومواكبة القضايا الاجتماعية والمطلبية في لبنان والقضايا العربية على مستوى الأمة. ولقد تعرّضت "الأحرار" والبعثيين بسببها إلى مضايقات وملاحقات واعتقالات وصلت إلى حدّ وضع متفجرة في مبنى الجريدة عام 1966.
وحين بات البعث في لبنان بعثين، انغمس البعثيون اللبنانيون في العمل الفدائي، وشكلوا مجموعات من المقاتلين المدافعين عن الجنوب فقدمت "منظمة" حزب البعث من خلال منظمة طلائع حزب التحرير الشعبية (الصاعقة) شهداء بارزين على أرض الجنوب كالشهيد أمين سعد (الأخضر العربي) في شبعا في تشرين الأول/أكتوبر 1969، والشهيد واصف شرارة في (بنت جبيل) في آذار/مارس 1970، فيما شارك حزب البعث عبر جبهة التحرير العربية في معارك مهمة في الجنوب ضد العدو الصهيوني بدأت في مزارع شبعا وكفر شوبا حيث استشهد حسين علي قاسم صالح في مزرعة حلتا، وبعده استشهد ثلاثة من طرابلس في مواجهة أول غزو صهيوني واسع للجنوب في 12 أيار/مايو 1970، جنباً إلى جنب مع مقاتل عراقي من الموصل (صقر البعث).
تميّز اهتمام البعث عبر جبهة التحرير العربية وعبر تنظيماته الشعبية بالجنوب برؤية متكاملة قامت على التلازم بين توفير مقومات الصمود لأبناء الجنوب عبر الملاجئ والمشاغل والمنح الدراسية، وذلك من خلال المؤتمر الوطني لدعم الجنوب وأمين سره المحامي خليل بركات، أو من خلال لجان الدفاع الذاتي التي خاضت معارك قاسية ضد قوات العدو الصهيوني خلال توغلها في القرى الحدودية، لاسيّما ما سمّي بملحمة "الطيبة" في 1/1/1975، التي استشهد فيها أب وولداه (علي وعبد الله وفلاح شرف الدين)، وبمعركة كفر كلا في 26/11/1975، التي استشهد فيها القائد البعثي المقاوم عبد الأمير حلاوي.
وفي حين لعب البعثيون الجنوبيون وعلى رأسهم المحامي خليل بركات والشاعر الشهيد موسى شعيب دوراً مهماً في إطلاق انتفاضة مزارعي التبغ في كانون الثاني/يناير 1972، وانتخب بعثي هو صبحي حمادة لأمانة سر لجنة المزارعين، كان البعثيون في منظمة البعث (وقيادتها في دمشق) يلعبون دوراً مميّزاً في ثورة الفلاحين في عكار، والتي كانت ثمرة جهد مشترك بين السيد أبو وجيه البعريني الذي تولّى الحشد الشعبي، والمحامي خالد الصاغية الذي تولّى الجوانب السياسية والقانونية وكلاهما كان يعمل بتنسيق عال مع القيادة السورية.
البعثيون بشقيهم كانوا جزءاً مهماً من كافة التحركات المطلبية والوطنية والقومية، لاسيّما الانتفاضة الطلابية الكبرى إثر العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت، ولعب الطلاب البعثيون في الجامعة الأمريكية واللبنانية واليسوعية دوراً مميّزاً فيها، وفي انتفاضة عمال غندور، والمعلمين، وحركة طلاب الجامعة الأمريكية.
في تلك المرحلة التي سبقت الحرب اللبنانية أيضاً، توزع البعثيون على محوري العمل الوطني اللبناني في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، أحدهما أطلق عليه اسم جبهة الأحزاب أو التحالف الرباعي بقيادة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الشهيد كمال جنبلاط، ويضم الحزب الشيوعي اللبناني برئاسة الشهيد جورج حاوي، ومنظمة حزب البعث برئاسة عاصم قانصوه، واتحاد قوى الشعب العامل برئاسة كمال شاتيلا.
أما المحور الثاني فكان يطلق عليه تجمع القوى والأحزاب والشخصيات وكان يضم حزب البعث (لتميزه عن منظمة الحزب) مع أنصار فتح (الحركة اللبنانية المساندة)، اتحاد الشيوعيين اللبنانيين، ومنظمة الاشتراكيين اللبنانيين، ولبنان الاشتراكي (قبل توحدهما في منظمة العمل الشيوعي) وتنظيمات أخرى، وكان هذا المحور يتمتع بحيوية وروح مبادرة مستمدة أساساً من تحرره من الكثير من الاعتبارات التي كانت تشدّ بعض قوى التحالف الآخر، لاسيّما رئيسها الشهيد وليد جنبلاط.
لكن جنبلاط سرعان ما دعا إلى تلاقي التحالفين في لقاء مشترك مع بدايات عام 1973 أطلق عليه اسم لقاء القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية، خصوصاً إنه بات لبعض القوى نواب في البرلمان اللبناني بعد انتخابات 1972، كعبد المجيد الرافعي من البعث عن طرابلس، ونجاح واكيم من اتحاد قوى الشعب العامل عن بيروت، والبعثيين السابقين د. علي الخليل (الجنوب)، ود. البير منصور (بعلبك – الهرمل).
غير أن التطورات خارج لبنان، بدأت تنعكس على البعثيين في لبنان، لاسيّما مع تفاقم الصراع داخل دمشق بين تيار يقوده اللواء صلاح جديد واللواء حافظ الأسد وأدى إلى حركة أطاحت بجديد ورفاقه ووصلت بالأسد إلى الرئاسة في 16 كانون الثاني/نوفمبر 1970، فانقسم البعث الموالي لدمشق إلى مجموعتين في لبنان، مجموعة يترأسها عضو القيادة القومية (وقد كان أمينها العام رئيس الدولة السوري السابق والراحل الدكتور نور الدين الأتاسي)، مالك الأمين، محمد عواضة. وأخرى ي