د. علي محمد فخرو
في اللحظة الراهنة يعيش الوطن العربي ظاهرتين متقابلتين ومتناقضتين في تأثيرهما على مستقبل هذه الأمة.
أما الظاهرة الأولى، الباعثة على الغضب واليأس، فتتمثل في جحيم القنوط وقلة الحيلة، الذي يعيشه الإنسان العربي بسبب تداعيات موت الضمير وتعفن المشاعر الإنسانية لدى القوى الدولية والإقليمية والعربية الفاعلة، والمهيمنة على المشهد السياسي والأمني المأساوي العربي، كما يتجلى على وجه الخصوص في أقطار من مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن.
فتلك القوى قد حسبت حسابات خاطئة، ولعب بعضها أدواراً خبيثة، ما أدى إلى وصول بعض الأقطار العربية إلى الحالة الكارثية التي نشاهدها ماثلة أمامنا.
من خلال الإغداق بالمال والمعدات العسكرية، والوسائل اللوجستية والتدريب، من قبل قوى أمنية استخباراتية لشتى صنوف الحركات الجهادية التكفيرية شوهت ودمرت حركات وثورات شعبية، وهمشت الثوار الحقيقيين الصادقين، ومن ثمّ وضعت العديد من الأقطار العربية في أيادي قوى همجية لئيمة أحالت تلك الأقطار إلى صحارى قاحلة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والعمران.
تلك القوى ترى وتسمع، يومياً وعبر سنين، آلام وأنين ملايين العرب، رجالاً ونساء، شباباً وشابات وأطفالاً، وهم يواجهون في مناطق سكنهم الجوع والعطش والمرض والعيش في العراء، وفقدان كل ما يملكون.
والمحظوظون منهم يفلحون في الخروج من ذلك الجحيم ليهيموا على وجوههم عبر العالم كله، إما في مخيمات البؤس والذل والعوز واليأس القاتل، وإما في قوارب الموت التي تبحر بهم عبر البحار والمحيطات، فيموت من يموت ويعيش من ينجو ليواجه أهوال الغربة كلاجئ غير مرحب به، وكإنسان بلا مستقبل ولا هوية ولا أمل.
فإذا كان قسم كبير من ذلك المشهد هو نتيجة لحسابات خاطئة وقرارات كارثية من قبل تلك القوى، وبعضها يعترف بذلك، أفلا يكون منطقياً أن تبادر تلك القوى، وفي الحال، وبأقصى سرعة، بتصحيح ما فعلته بملايين الأبرياء العرب؟ لكن ذلك لا يحدث.
وبدلاً منه، نشاهد يومياً مسرحيات الادعاءات والكذب: زيارات متبادلة بين مسؤولي تلك القوى، جلوس حول طاولات المفاوضات للتأكد من أن الجيفة العربية سيتقاسمها الجميع بتوازن، وبلا غالب أو مغلوب، تتبعها تصريحات تبشر العرب بقرب الفرج، والفرج لا يأتي، ويبقى الملايين من العرب يواجهون الموت أو العيش في المنافي، وتصبح مدن العرب الكبرى أنقاضاً تنعق فيها الغربان.
وهكذا يواجه العرب تداعيات ونتائج موت الضمير والحس الإنساني عند من لا يعرفون طرق التكفير عن الذنوب وتصحيح الظلم الذي ألحقوه بضحاياهم.
من هنا الأهمية الكبرى لمشهد الظاهرة الثانية، الباعثة على الأمل، التي تتمثل في مظاهرات ساحات مدن العراق ولبنان الآن، والتي، طال الزمن أو قصر، ستشمل أجزاء أخيرة من وطن العرب.
قيمة هذه المظاهرات أنها تجلٍ جديد لروح «الربيع العربي» الحقيقي حتى ولو كانت مطالبها تبدو ظاهرياً بأنها محدودة.
ذلك أن «الربيع العربي» كان في بداياته نتيجة انبعاث جديد لروح وإرادة الأمة وهما يتجليان في أشكال كثيرة من الفعل الجماهيري في ساحات مدن العرب.
إننا أمام تجلٍ جديد لنفس الروح ونفس الإرادة وهما يقفزان من جديد بشباب وشابات فوق بلاد الانقسامات الطائفية والقبلية، وكل أنواع الولاءات الفرعية غير الوطنية وغير القومية ، وهما أيضاً يتحديان فرح وزغاريد من أشاعوا أن «الربيع العربي» الحقيقي، ربيع انبعاث روح النهوض من التخلف التاريخي، وإرادة التمرد على التسلُط والانتقال إلى الديمقراطية، بأن ذلك الربيع قد دخل في مرحلة سكرات الموت، وبشروا بأن خريف الذل سيعود، لتعود أرض العرب أرضاً للفساد والاستباحة.
نحن أمام مشهدين إذن، أحدهما يعلن موت الضمير الدولي، ويعلن عن سقوط أخلاقي مريع لإرادة وروح الحضارة، والآخر يعلن عن صحوة الضمير الجماهيري وتجدُد إرادتها.
إن الحراك في العراق ليس فقط من أجل حل مشكلة الكهرباء، والحراك في لبنان ليس فقط من أجل حل مشكلة النفايات في الشوارع، ذلك ما يتمناه المشككون في ما يختزنه الإنسان العربي من قدرات وإبداع، هما حصيلة تاريخ طويل من الثورات والتمردات التي لم تخمد قط إلّا لكي تشتعل من جديد.
شباب وشابات هذه الأمة لن ينتظروا صحوة الضمير الدولي وخروجه من غرف الإنعاش.
سيقفزون فوق الساسة الانتهازيين والتوازنات الدولية والإقليمية، فوق مؤامرات الاستخبارات، فوق ظاهرة الهمجية التكفيرية المؤقتة، وسيستمرون في مسيرة الربيع الذي بدأوه، وسيثبتون أن هذه الأمة تستحق الحياة.