حسن خليل غريب
إن الحروب هي إحدى وسيلتين لتحقيق الأهداف السياسية، فالوسيلة الأولى هي الديبلوماسية، التي تسبق عادة وسيلة الحرب. وأما الثانية فهي وسيلة الحرب التي يُلجأ إليها إذا أخفقت الوسائل الديبلوماسية. إذن لكل حدث عسكري أو أمني سقف سياسي استراتيجي. فالحدث العسكري أو الأمني يتسم بالمرحلية ويُوضع في خدمة السقف السياسي الاستراتيجي. ولذلك لا يمكن تفسير الحدث المرحلي بمعزل عن المخطط الاستراتيجي الذي يرسم خطواته ومساراته، يوقِّت له لحظة البداية ويرسم له خط النهاية.
بينما الخطأ الشائع الذي يقع فيه معظم المحللين هو أنهم يبنون استنتاجاتهم على أحداث متفرقة وتفصيلية تقوم بها جماعات ليس لها هدف استراتيجي، أو أنها تمتلك ذلك الهدف، ولكنها تنفِّذ استراتيجيات القوى التي تمد لها يد العون، التي إن انقطعت عنها ينتهي تأثيرها وفعلها. ففي مثل هذه الحالة لا يمكننا القياس أو البناء على ما تحققه على أرض الميدان، بل إن ما تحققه تلك الجماعات يتم ربطه باستراتيجيات القوى التي تدعمها. وإذا أخذنا مثالاً على ذلك دور الجماعات المتطرفة دينياً في أحداث ما يجري في معظم أقطار الوطن العربي، ولنضعه تحت غربال التحليل، فماذا سنجد؟
لا يمكن للعقل الفاحص أن يبرهن على أن تلك الجماعات المتطرفة دينياً، أو حتى تلك الأقل مغالاة في أهدافها، على أنها تمتلك إمكانيات تبدو أحياناً مذهلة. إذ كيف لتنظيم ظهر فجأة، وفي ظروف غامضة أحياناً، يقوم تشكيله على عدد محدود من الأفراد، بالمئات أو حتى بالآلاف، أن يوفر مستلزمات معارك على مساحة قطر عربي صغير بالمساحة؟
هذا علماً أن بعض تلك الجماعات تخوض معارك مواقع كبرى تستهلك عشرات الأطنان من الأسلحة، ومن الرواتب، وتكاليف علاج الجرحى، ونفقات الانتقال من مكان إلى آخر، وامتلاك الدعم اللوجستي والإعلامي، وما إلى هناك مما تحتاجه معارك المواقع من إمكانيات كبيرة. هذا ناهيك عن القتال الذي تمارسه في أكثر من قطر عربي، وعلى أكثر من ساحة دولية. وإذا أخذنا مثال (داعش) في ذلك، التي قدَّرت كل التقارير عديدها بالآلاف، فكيف يمكنها أن تمارس قتالاً في العشرات من الساحات؟
إلى هنا يبدو أن العقل قاصر عن الاقتناع بأن داعش هي تنظيم مستقل بإمكاناته، وقادر على أن يُحدث كل هذا التأثير في العالم، وأن يستدعي قيام تحالفات دولية تضم عشرات الدول تضع إمكاناتها المالية والعسكرية في سبيل ما يسمونه (محاربة إرهاب داعش). أليس هذا استخفاف بعقولنا؟
لقد أعطينا هذا المثال، من أجل أن نبرهن على عبثية التحليل والاستنتاج التي يقوم بها محللون حينما يعالجون، أو عندما يريدون أن يحددوا موقفاً مبنياً على استراتيجية داعش في تأسيس دولة إسلامية، والأمر من كل ذلك أنهم يبنون تحليلاتهم على معارك عسكرية يقوم بها هذا التنظيم هنا أو هناك. فالأكثر موضوعية هو أن نبني التحليل عندما نتصدى لبحث نتائج معركة يقوم بها هذا التنظيم، في هذا المكان أو ذاك، هو أن نبنيها على استراتيجية القوى التي ابتكرت وسيلة داعش من أجل تنفيذ استراتيجياتها.
وهكذا نغرق، ونغرق في التحليل والتساؤل: دخلت داعش إلى الموصل، وخرجت داعش من الموصل. دخلت داعش إلى حلب، وخرجت داعش من حلب. دخلت داعش إلى بنغازي، وخرجت داعش من بنغازي. وهكذا نعيش في إعلامنا على وقع الغرق في تحليل معارك عبثية لا هدف فيها لداعش ولا من يحزنون. والأكثر موضوعية هو أن نعالج أساس المشكلة، بالتساؤل: لماذا يدخلون داعش إلى سورية، ولماذا يعملون لإخراجها من سورية؟ ولماذا يُدخلون داعش إلى العراق، ولماذا يعملون إلى إخراجها من العراق؟ ولماذا يصدِّرون داعش إلى ليبيا، ولماذا يعملون على إخراجها من ليبيا؟
فهل للإجابة على التساؤل تعجيز؟ وهل هي أحجية عصية على الحل؟
إن الجواب موجود في مسرحية للرحابنة التي ابتكر فيها مختار القرية شخصية وهمية دعاها (راجح)، ليخيف بها سكان قريته حتى يبقوا بحاجة إلى حمايته. وأخيراً كشف الرحابنة عن السر، ليتبين لأهل القرية أن (راجح) كان مجرد كذبة لتخويف أهالي القرية بقصد إبقاء ولائهم للمختار.
فمتى يتبيَّن المحللون الاستراتيجيون في (قريتنا العربية الكبرى) أن (المختار) الذي يشغل بالنا وبال العالم والإقليم، قد ابتكر أكذوبة (راجح الداعشي) ليخيفنا به، ليس لسبب أكثر من أن نبقى بحاجة إلى حماية (المختار الأميركي)، و(المختار الصهيوني)، و(المختار الإيراني)، وإلى كل (مخاتير العالم) الطامعين بأرضنا وعرضنا.
إلى متى يبقى المحللون الاستراتيجيون في (قريتنا العربية الكبرى) غافلين عن أن (راجح الداعشي) أكذوبة ألَّفها (مخاتير العالم والإقليم)، لكي يطاردوا باسمه كل مقاوم عربي يقف في مواجهتهم لمنعهم من سرقة أرضنا وثرواتنا، ومنعهم من انتهاك كرامتنا وعرضنا.
إننا نعود إلى استذكار تجربة احتلال العراق، فنجد هناك (راجح أسلحة الدمار الشامل) و(راجح تنظيم القاعدة) التي نسبوا كذباً للنظام الوطني السابق التعاون معها. ألم تستعمل إدارة الولايات المتحدة الأميركية كل تلك الأكاذيب من أجل تبرير عدوانها على العراق واحتلاله؟ وألم يصدِّق المحللون الاستراتيجيون (العرب) تلك الأكاذيب، في تلك المرحلة، ويبنون عليها كل تحليلاتهم؟
بلى فعلوها، وبرروا بشطارتهم التحليلة جرائم أميركا وحليفها الإيراني في احتلال العراق، وهم الآن بشطارتهم التحليلية المميَّزة يبررون جرائمهم أيضاً، ولكن التبرير يظهر بصورة وجود (راجح الداعشي).
وأما البرهان على ذلك، فلأنهم يريدون أن يبرروا دور (الحشد الشعبي الطائفي) الذي يعيث بالأرض فساداً وظلماً، والذي لا مبرر له أمام الذين زاغت عقولهم عن رؤية الحقيقة أكثر من أنه يواجه خطر (راجح الداعشي). والأمرُّ من كل ذلك أنهم يريدون أن يبرروا جرائم تحالف الإدارة الأميركية وحليفها النظام الإيراني لسبب واحد أنهم يحاربون الإرهاب الذي يمثله (راجح الداعشي). وإذا كانت أسس مشروعهم التآمري مبني على أساس التفتيت الطائفي للوطن العربي، فلا بُدَّ من أن يحتاجوا إلى وجود متناقضين طائفيين يقتتلان ليبررا اشتعال الحروب في الأقطار العربية، فكان ابتكار ظاهرة داعش من أجل ابتكار ظاهرة الحشد الشعبي، وهو ابتكار خطير. ولكون كل منهما ينتمي إلى مذهب مختلف بأهدافه عن المذهب النقيض. ولأن كلاً منهما يعتبر أن معتقداته مقدِّسة وهو مأمور (إلهياً) بالقتال من أجل نشرها في الأرض. إذن فمن وضع تلك الابتكارات خطط من أجل أن يضمن استمرار القتال بين الطائفتين إلى عشرات السنين من دون وجود أي أفق لإنهائها. هذا مع العلم أن الصراع التاريخي بين الطائفتين دام لمدة قرنين متكاملين، وهما القرنان الرابع والخامس الهجريين.
ولأن المحللون الاستراتيجيون، ذوي الرؤية الحولاء، يعتِّمون على دور التحالف الأميركي – الإيراني، ويُبروزن دور داعش الإرهابية، أصبحوا كمن يقلب هرم المنطق العلمي رأساً على عقب. فبدلاً من قياس الأحداث على الأهداف الاستراتيجية لذلك التحالف الذي ابتكر أكذوبة القاعدة ومن بعدها أكذوبة داعش. فهم قاسوا الأهداف الاستراتيجية على ما ارتكبته القاعدة سابقاً، ويقيسون تلك الأهداف عما يرتكبه داعش الآن، ولا شك بأن استنتاجاتهم السابقة نالت صفراً من المصداقية، وأما استنتاجاتهم الآن فستنال علامة صفر أيضاً، لأن ما بُني على أكذوبة فهو أكذوبة أخرى.
أما كيف نعيد تركيب هرم تراتبية الأهداف الاستراتيجية للاعبين الأساسيين على مساحة الوطن العربي، فسنجد التالي:
من القواعد الأساسية التي يمكن القياس عليها، في تحليل ما يجري في الوطن العربي من أحداث مأساوية، لا يمكن فصله عن استراتيجيات القوى الدولية والإقليمية. واستطراداً، ولأن المصالح في المنطقة العربية هي الهدف الرئيسي في الاستراتيجيات الدولية، للخصائص التي تتميز بها، نعتبر أن للاستراتيجيات الدولية متكآت إقليمية لا يمكن لتلك الاستراتيجيات أن تتجاوزها.
وإذا حسبنا أن استرايجيات الدول الكبرى، بما تمتلكه من إمكانيات كبيرة، تمثل رأس الهرم، فتكون الأطماع الإقليمية في الدرجة الثانية من تركيبته، فنعتبر أن لدول الإقليم أطماع استراتيجية في المنطقة العربية، ولا يمكنها التفكير بتحقيقها بمعزل عن الإرادة الدولية، وتلك حلقة أساسية تربط بين الأهداف الدولية في الوطن العربي. فالدول الإقليمية تتظلَّل بالخيمة الدولية، والقوى الدولية تضمن ممرات آمنة لتدخلها عبر القوى الإقليمية.
وتسلسلاً، من أجل استكمال طبقات الهرم، نعتبر أن النظام العربي الرسمي يمثل الحلقة الثالثة. ولأن ذلك النظام غائب عن مواجهة التحالفات الدولية – الإقليمية، فقد ترك الأبواب مشرَّعة أمامها، لتملأ الفراغ، فاستباحت الوطن العربي قطراً فقطراً تحت ذريعة محاربة الإرهاب. وهي تمثل الآن دور الخياط الذي يفصل الثوب العربي ليناسب مقاسات أطماعها.
وأما الحلقة الرابعة والأخيرة في تسلسل بناء الهرم، فهي القوى الرافضة لكل مواقع وأهداف التحالف الدولي – الإقليمي، والتي على الرغم من ضعفها مادياً وسياسياً، فهي العامل الوحيد الذي يعرقل تلك المخططات، ويقف في مواجهتها، لأن العكس يعني الاستسلام الكامل لاستراتيجيات تحالف القوى الدولية والقوى الإقليمية. وفي حالة الاستسلام تكون الخسارة حتمية. وأما في حالة المواجهة فسيبقى رهان النجاح حيَّاً. ولأننا تعلمنا من فلسفة التاريخ أن العدوان سيُهزم لأنه يسير بالضد من القيم الإنسانية، وأن مواجهة العدوان ومقاومته ستنتهي بالنصر لأنها الرد الوحيد الطبيعي والإنساني ضد كل ما يتناقض مع تلك القيم.
وعليه، ومع الإصرار على مقاومة المؤامرة الدولية – الإقليمية التي تسعى إلى تمرير مؤامرة الشرق الأوسط الجديد، لا بُدَّ من كشف زيف أساليب العدوان، في ابتكار أكاذيب الإرهاب، وكذلك الكشف عن غيره من الذرائع التي تبرر استمرار الحروب العبثية التي يتم توظيفها لمصالح تلك القوى، ولتستمر حتى تحقق أهدافها طالما أن وقودها دماء العرب وأرواحهم وأمنهم وأرزاقهم. أما أكاذيب الإرهاب فهي من خدع الحروب المنظَّمة، ووقودها المستورد من الخارج لا يتعدى الآلاف من المتطرفين ممن تم تضليلهم بمزاعم فروض المشاركة فيها لأنها حروب مقدَّسة.
وأخيراً، إن المطلوب ممن يزعمون أنهم من المحللين الاستراتيجيين (العرب)، وإذا كانوا يرفضون كشف اللثام عن خداع القوى الطامعة بأمتهم العربية، فعلى الأقل نناشدهم أن يتحفونا بسكوتهم عن تبرير المؤامرة، والسكوت هو أضعف الإيمان.
في 6/9/2016