لعل من نافلة القول إن أية أمة مأزومة، يكون أحد مكونات أزمتها هو غياب الأسس الفكرية والأطر النظرية لرؤيتها المستقبلية ومشروعها للحياة، وان غياب الرؤية أو تغييبها يؤدي إلى طغيان العوامل التكتيكية على الأهداف الاستراتيجية؛ فتصبح الضرورات مبادئ وتكرس الاعتبارات المرحلية الاضطرارية على أساس أنها واقع دائم ومقبول، وهذا مع الأسف واقع أنظمة الراهن العربي، والأدهى والأمر هو وقوع العمل الفلسطيني ورقة في يد القوى العربية والعالمية الراغبة في الدخول في مساومات التسوية، وليس بخافٍ على أحد أن قوى عربية ودولية مهمة سياسية ترغب في إنهاء حالة الصراع بين الدول العربية والكيان الصهيوني على أساس قبول الدولة الصهيونية عضوا فاعلا في دول المنطقة العربية كدولة ظافرة ذات حدود آمنة ومعترف بها، بل وتدخل الدول العربية معها في مشروع الشرق الأوسط الجديد بطبعته الأميركية الصهيونية طبعاً، ووفق هذه الرؤية فإن تصفية القضية الفلسطينية والمقاومة ثمن لوعود بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في يونيو/حزيران.1967
بعد العدوان على العراق العام 1991م وتدمير بناه ومحاولة إخراجه بالقوة من دائرة الصراع العربي الصهيوني بعد أن كان عصياً على التركيع، وبعد أن أخرجت مصر من الصراع عبر اتفاقات كامب ديفيد، فقد جرّب العرب مؤتمرات السلام المزعوم منذ كامب ديفيد، ومدريد، وأوسلو، وواي بلانتيشن، ووادي عربة، أنابوليس، لتتكامل تنازلات معظم الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية، كالعقد المنفرط، ولو عدنا بقراءة موضوعية فلن نجد إلا وعوداً تنشرها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، والتي أقصى ما ترمي إليه هو ضمان وجود العدو الصهيوني على ارض فلسطين، عبر ترسيخ قاعدة التطبيع مع العرب، للقبول بالكيان المزروع على قلب الوطن العربي، وأن يكون له دور القائد المتحضر كما يزعمون، وإنهاء أسطورة المقاومة الفلسطينية وتضحياتها بشكلٍّ خاص، وكذلك إنهاء المقاومة العراقية واللبنانية، تحت شعار محاربة الإرهاب.
ويتّضح بشكل جلي أن أهداف العدوان الصهيوني الحقيقية على غزة، يكمن في القضاء نهائيا على التطلعات الفلسطينية القومية، ليتسنى لها الاستمرار في امتصاص أراضي الضفة الغربية من خلال توسيع المستوطنات، كما فعلت منذ حرب العام ,1967 وقد تتحول الأجزاء الصغيرة المنفصلة عن الضفة الغربية التي لا تستطيع إسرائيل أو لا ترغب في هضمها إلى محميات هادئة. وسيتمّ إجبار سائر الشعب الفلسطيني على الصمت أو الرحيل إلى الأردن، فالكيان الصهيوني ينهي احتلاله للأراضي الفلسطينية، وهو ما يعتبر مصدر المشكلة كلها، بل المحاولات جارية للاستيلاء على أراضٍ إضافية، فالكيان الصهيوني يواصل إنكاره للحقوق الفلسطينية ويصور مقاومته الباسلة الشرعية إرهاباً.
أما الصفقة التي تعدها أميركا مع الكيان الغاصب، فتقوم على قيام كيان فلسطيني ضعيف مقطع الأوصال، ليكون غطاء لتصفية حق العودة بإسهامٍ حكومي عربي رسمي ومباشر، وتوطين الفلسطينيين في المهجر وغرب العراق ولبنان والأردن، وجعل الكيان الفلسطيني عبارة عن جدار بشريٍّ عازلٍ يحمي الكيان الصهيوني من الجماهير العربية وفي طليعتها المقاومة الفلسطينية الباسلة.
هذا هو السيناريو المطلوب أميركياً، ولكن هل سيحل الصراع؟ هل يمكن أن تسحق حقوق الشعب الفلسطيني؟ إن نتائج العدوان على غزة والصمود الأسطوري للمقاومة فيها، وعزيمة المقاومة اللبنانية، والشوكة الضاربة للمقاومة العراقية الباسلة التي أوقفت المشروع الأميركي وأجهضته، إن وحدة هذا الفعل المقاوم وتجاوز خلافاته هو القمين بالتصدي لمشروع تصفية القضية الفلسطينية وبناء معادلات جديدة على الأرض، فالصراع الآن بين استراتيجية رفض الحل الاستسلامي الذي لا يمكن أن تتعايش مع استراتيجية فرض الأجندة الأميركية الصهيونية.