منذ الإنهيار المالي العولمي، الذي انفجر في أواخر سنة 2008 ، والعالم أجمع، وليس العالم الغربي فقط، يطرح شعاراً ملفتاَ في ساحة الفكر الاقتصادي السياسي وهو: 'بناء رأسمالية جديدة في عالم جديد'. ولكن أيُ رأسمالية وأيُ عالم جديد؟ أما العالم الجديد فقد اختصر في توسعة مجموعة الثماني، التي كانت مهيمنة على القرارات الاقتصادية الدولية، لتضًم عشرين دولة، وعندما تمخًّض اجتماع العشرين في لندن عن قرارات هزيلة محدودة تعلقت بموضوعين هامشيًّين هما ضبط الملاذات الضرائبية، التي يلجأ إليها أغنياء العالم للتهرب من دفع الضرائب، وزيادة قدرات صندوق النقد الدولي المالية، تبيًّن أن العالم الجديد لم يكن أكثر من أداة لخدمة العالم القديم.
أما بناء الرأسمالية الجديدة فقد بقي موضوعاً تتداوله الأوساط الجامعية والفكرية، بينما انشغلت مؤسسات الحكم والتشريع في البلاد المتضًّررة من الأزمة باتخاذ خطوات تصحيحيًّة خجولة تمثًّلت في وضع ضوابط متواضعة لنشاطات أسواق ومؤسًّسات المال وبذل محاولات لتخفيف العجوزات في ميزانيات هذه الدولة أو تلك. ومن الواضح أن العالم يفتقد في المرحلة الحالية اية مرجعية دولية قادرة على رسم معالم الرأسمالية الجديدة التي انقلبت إلى شعار سياسي يفتقر إلى الاستراتيجيات والخطط العملية. وتثبت الأيام أن سلطة البنوك والشركات العولمية الكبرى مازالت عصيًّة على القبول بالانضباط وأن هيمنتها على رجالات ومؤسسات السياسة تملك أدوات الخداع والأسنان القويًّة.
إذن فهناك كتل دولية وهناك دول فرديًّة تتحرك لمواجهة ماخلفته الأزمة المالية العولمية الأخيرة من تداعيات وأخطار مستقبلية.
فماذا عمًّا كنا نسٍّميه الكتلة الاقتصادية العربية القومية؟ هل مازالت موجودة؟ وهل لديها الرًّغبة والإرادة في بناء فكر وطريق اقتصادي جديد يأخذ بعين الاعتبار دروس الماضي وإمكانيات المستقبل؟
أما الماضي فقد أثبت أن السَّير في طريق التاًّبعين لمراكز القرار في المنظومة الرأسمالية الدولية وتركها تخطَّط هيكليًّة الاقتصاد العربي، وحركة أسواقه، وتوجُّه خيراته، ومقدار ونوع نموٍّه، وربطه بشتَّى الوسائل بأنظمة السّوق العولمي، والتعامل معه كاقتصادات قطرية مستقلة عاجزة لا رابط بينها، وجعل فوائضه المالية البترولية في خدمة الراسمالية الغربية، بدلاً من المساهمة في بناء اقتصاد وطني وعربي انتاجي ـ معرفي متين … إن كل ذلك قد أدى إلى خسائر مالية عربية كبرى من جرًاء ممارسات خاطئة ارتكبها الغير في الأساس ومن جرًّاء الإهمال الشديد لأيٍّ خطوات تؤدٍّي إلى بناء اقتصاد إقليمي عربي مترابط ومتناغم ومتنام.
أما إمكانيات المستقبل فقد كتب الكثير عنها، وهي مبثوثة في عدد هائل من كتب كبار الفكر الاقتصادي العربي الموضوعيين المتزنين، وهي مسجًّلة في عشرات تقارير وتوصيات الاجتماعات العربية المشتركة الرسميًّة والخاصُّة منذ أربعينات القرن الماضي. وهي جميعها ترسم أشكالاً من الطرق والوسائل والخطوات العملية التي تنتظر القرار السياسي للبدء بتنفيذها.
إن المنطلق الأساسي يجب أن يعتمد على تحليل الأخطاء، وحتى النظرات، الماضية التي قادت إلى العثرات السًّابقة، ويحتاج أن يتذكُّر بأن أي فراغ اقتصادي عربي ستملأه الأحلام الصهيونية ببناء اقتصاد إقليمي تقوده وتهيمن عليه المؤسسات الرأسمالية الصهيونية المدعومة بقوة من قبل الغرب الرأسمالي المعادي للنهوض العربي والمتعاطف مع السًّطو الصهيوني. وهذا المنطلق يجب أن يأخذ بعين الإعتبار أن الدول الإقليمية الإسلامية، وعلى الأخص تركيا وإيران، لم تكن أكثر رغبة وحاجة للتعاون والإندماج في الاقتصاد العربي مًّما هي عليه الآن، وهي فرصة تاريخية يجب أن لا تضيع.
إن الأنظمة السياسية العربية يجب أن تدرك أن البدائل ستكون كارثية. فتوجُّه الاقتصاد العربي القطري المجزًّأ نحو كونه جزءاً من اقتصاد إقليمي أو عولمي، دون أن يمرً في مرحلة بناء اقتصادي عربي، سيجعله دائماً عرضة للإبتزاز والإستغلال، وعلى الأخص استخدام الثروات البترولية والغازية العربية لخدمة مصالح الغير.
وستوجًّه تلك الثروة لمقايضتها بالحصول على فتات التكنولوجيا، أو تأمين المياه، أو تأمين الغذاء، أو تأمين الأمن لهذا النظام أو ذاك، بدلاً من استعمالها لبناء قدرات علمية وتكنولوجية وبشرية عربية متمكنة من بناء اقتصاد عربي قادر على أن يكون ندًّاَ لاقتصادات الآخرين ومتعاوناً بكفاءة، وليس تابعاً، للاقتصاد العولمي.
سيرى العالم قريباً أفكاراً اقتصادية متعدٍّدة، وليس فكراً واحداً، فليكن الفكر العربي الاقتصادي واحداً من بينها.