عوني صادق
قبل أن تنتهي الولاية الثانية للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بشهور، وبجهوده، جاء تعيين رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، في صيف العام ،2007 “مبعوثاً للجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط” . جاء ذلك مكافأة له على جهوده ومشاركته في التحضير ثم المشاركة في غزو العراق واحتلاله في العام ،2003 لقد بات معروفاً أن بلير هو “الأب الروحي” لأكذوبة اسلحة الدمار الشامل العراقية التي تحتها تمت الغزوة الأمريكية للعراق، وتدميره واحتلاله .
وها هو وزير خارجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وفي بداية ولايته الثانية يعين بلير “سكرتيراً تنفيذياً” للخطة الأمريكية “لاستئناف عملية السلام”، ويكلفه وضع الخطة العبقرية التي ستنقذ “السلام في المنطقة”! وكأنما يريد الأمريكيون (جمهوريين وديمقراطيين) أن يؤكدوا دائماً أن الفضل في قيام “دولة إسرائيل”، يعود إلى بريطانيا والبريطانيين، واعترافاً بأسبقيتهم هذه يحرصون على أن يظل لهم “دور” في استمرار واستكمال “المشروع الصهيوني” الذي بدأ على أيديهم، الأمر الذي يكشف طبيعة الخطة الأمريكية وما يعرف ب “خطة كيري” لاستئناف “عملية السلام في الشرق الأوسط” .
نقلت وسائل الإعلام “المطلعة” أنه عندما اصطدم كيري بالموقف “الإسرائيلي” المتعنت الرافض لوقف عمليات الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية، لجأ إلى فكرة بنيامين نتنياهو القائمة على ما يسمى “السلام الاقتصادي”، وتبناها ووضع خطته لتنشيط الوضع الاقتصادي الفلسطيني كمدخل إلى المفاوضات السياسية . لكن “الحقيقة التاريخية” تظهر كذب هذا الادعاء، حيث إن “السلام الاقتصادي” هو فكرة أمريكية في الأصل، وكانت جوهر الموقف الأمريكي قبل توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993وإنشاء السلطة الفلسطينية في رام الله . على أية حال، خطة كيري الجديدة طرحها في زيارته الثالثة إلى فلسطين المحتلة في إبريل/ نيسان الماضي، وأكدها وتوسع في الحديث عنها في مؤتمر دافوس الأخير على البحر الميت، تزامنت مع اجتماعات جمعت، في إطار المؤتمر، بينه وبين محمود عباس وشمعون بيريز، وأخرى بينه وبين محمود عباس وتسيبي ليفني وإسحق مولخو في عمان .
إن خطة كيري التي تقوم على أساس جمع (لاحظ جمع وليس تقديم أو تخصيص)، مبلع أربعة مليارات دولار، عن طريق جذب المستثمرين على أن توظف في مشاريع اقتصادية تستثمر لإنعاش الاقتصاد الفلسطيني وتتيح فرص عمل جديدة تقلل من نسبة البطالة العالية، ويكون جلها في منطقة (ج)، تصطدم سلفاً بالموقف “الإسرائيلي” الذي يمنع الفلسطينيين التحكم في هذه المنطقة . لكن كيري ادعى أن الخطة حظيت بموافقة محمود عباس وبنيامين نتنياهو . وفي الوقت الذي يرى فيه كيري أن هذه الخطة ستخلق الجو المناسب لاستئناف المفاوضات السياسية، يرى كثيرون أنها لن تؤدي إلا إلى تطبيع العلاقات بين “إسرائيل” والدول العربية المستعدة للانخراط في الخطة .
وبينما يعلن عباس أن كيري لم يقدم خطة لاستئناف المفاوضات السياسية، مؤكداً تمسكه بالحلول الدائمة ورفضه الحلول المؤقتة، يقول مستشاره الاقتصادي ورئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني، محمد مصطفى، في بيان له، إن “القيادة الفلسطينية لن تقدم تنازلات سياسية مقابل تسهيلات اقتصادية” . وأوضح مصطفى في بيانه: “لن نقبل بأن يكون الاقتصاد هو العنصر الأول والوحيد، بل نريد أن يتم ذلك في إطار سياسي يضمن قيام دولة فلسطينية على حدود شرقية تضمن حقوق اللاجئين”! ولعل السؤال الذي يرد إلى الذهن بعد هذا البيان، يتعلق بالمعاني السياسية التي تنطوي عليها العبارات الأخيرة من البيان . فماذا تعني عبارة “دولة فلسطينية على حدود شرقية”؟ وماذا تعني عبارة “تضمن حقوق اللاجئين”؟ ومن قال إن خطة كيري “الاقتصادية” لا تنطوي على “عناصر سياسية”؟! أما إذا كان مصطفى، وهو يتحدث باسم عباس، يقصد من هذه العبارات أن الحدود واللاجئين وبقية “العناصر السياسية” خاضعة للمفاوضات، فهو إنما يمهد لقبول خطة كيري أولاً، وترك المسائل السياسية للمفاوضات السياسية التي لا بد ستأتي! إنها سياسة التنازلات “من فوق” الكلام العام والمعوّم، وبكلمة أدق هي سياسة الكذب والتضليل .
إن كل ما نقل عن نتنياهو، أثناء وبعد زيارة كيري الرابعة، عن استعداده لتقديم “بعض التنازلات” يساوي صفراً، ويؤكد مقولته الشهيرة “مفاوضات من دون شروط مسبقة”، فضلاً عن مواصلة كل السياسة الإسرائيلية التوسعية من مصادرة للأرض وتوسيع للاستيطان وتهويد للقدس . . . إلخ . أكثر من ذلك، إنه في الوقت الذي تمهد فيه سلطة رام الله لقبول “خطة كيري” الاقتصادية، و”سلام نتنياهو” الاقتصادي، وفي الوقت الذي يعلن فيه عباس وكبير مفاوضيه صائب عريقات توقعهما أن يقدم كيري “خطة لاستئناف مفاوضات السلام” خلال أسبوعين، في هذه الأثناء، يعتزم رئيس كتلة “الليكود” في الكنيست، الذي يتزعمه نتنياهو، أن يقدم مشروع “قانون أساس”، الذي يُعدّ قانوناً دستورياً من شأنه أن يمهد لضم الضفة الغربية إلى “إسرائيل” . ومشروع القانون ينص على أن “أرض إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي”، أي لا يجوز التنازل عنها أو قبول ألا تكون جزءاً من “دولة إسرائيل”، وهو ما يعني ضمها وقطع الطريق على الطعن مستقبلاً في شرعية المستوطنات، أو مكانة المستوطنين فيها .