وسام السبع
مشهدان يلوحان أمامي ولهما دلالة اجتماعية ونفسية عميقة فيما يمر به مجتمعنا اليوم؛ المشهد الأول لفتاة جامعية ذات 19 ربيعاً، وقد ذكرت أن قائمة صديقاتها المدونة أسماؤهن في هاتفها النقال كانت تشبه البحرين في تنوعها وثرائها وتعدديتها المذهبية، قالت لي «تصور أن 50 في المئة من صديقاتي من إحدى الطوائف الكريمة والنصف الآخر يمثل الطائفة الأخرى، ولم أشعر بذلك حقاً إلا بعد فبراير (شباط) 2011 عندما جففت السياسة منابع الحب في قلوبنا ولتصبح بعدها القائمة من لون واحد، هو لون طائفتي».
المشهد الآخر بطله ابني وهو في سنته الأخيرة في رياض الاطفال عندما سألني عما إذا كان رجل المرور – الذي يلقي عليه تحية باسمة تنضح بالبراءة صباح كل يوم – سنياً أم شيعياً؟! وجوابي كان دهشة عقدت لساني، تلاه سرحان بعيد فيما ستؤول إليه عقليات الجيل المقبل وتأثيرات ذلك على صعيد العلاقات الإنسانية في مجتمع محدود الرقعة.
لقد كتب الكثيرون عن تداعيات الأزمة السياسية الخانقة على علاقاتنا الاجتماعية كشعب عرف خيار التصافي وروعة العيش المشترك لقرون، وكتب البعض عن تأثير الأحداث على الأسر المختلطة (الزوجين من مذهبين مختلفين) والتي توّجت حبها باقتران كان يجب أن يكون أبدياً لولا منابر الكراهية التي سمّمت أفق حياتنا فوق ما هي مسمّمة بالغازات المميتة. زيجات أدركها الطلاق لا لأن شعلة الحب قد انطفأت فيها، بل لأنها سمحت للحماقة والرعونة السياسية الساذجة أن تتسلل إلى حياتها وتضرب أقدس ما فيها، في ظرف غابت فيه القدرة على تحكيم العقل، وصدّق البعض – بغباء – أن الاحتفاظ بالرأي المخالف أثمن من الاحتفاظ بالأبناء والاستقرار الأسري.
بلدي غارق في وحل الطائفية حتى النخاع، البحرين لا تشبه نفسها، بلدي يرتدي ثوباً ليس ثوبه، إنه يتصنع الكراهية، يختلقها لمآرب السياسة. في بلدي ينتظر الجميع إصلاحاً جاداً يعيد إلى المجتمع سماحته وحبه ورشده الذي أريق كما أريقت دماء الأبرياء في لحظة طيش منفلت نتحمل جميعاً مسئولية تجاوزه وإيقافه.
لو كنت زعيماً سياسياً، لأوصيت الجماهير بقراءة الأدب، قراءة الروايات والقصص والاطلاع على التراث الشعري، ولأوصيتهم بالقراءة الحذرة للتاريخ، التاريخ مؤلم وحمّال أوجه، وقراءته قابلة للتطويع والتأويل، بينما الأدب دائماً يسمو بالأفكار والمشاعر، ويخاطب أبداً الجانب الطيب والصالح في الإنسان.
رسالة الأدب، رسالة سامية، وكل الذين كتبوا في الأدب، إن كان في القصة أو الرواية أو المسرح إنما هم يكتبون عن الحب بطريقتهم الخاصة، يكتبون في مديح العدالة والخير، يغنون في حب الأوطان أو التغزل بالحبيبة، ويكافحون بالكلمة من أجل إحلال السلام والحرية والعدالة.
للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف (توفي 2003) رواية جميلة عنوانها (بلدي) وهي رواية غنائية بامتياز، من الرواية «قال أبو طالب: إذا أطلقت نيران مسدسك على الماضي أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك». وهو الذي قال «شيئان في الدنيا يستحقان المنازعات الكبيرة… وطن حنون وامرأة رائعة».
هل نسينا الماضي، وثأر منا المستقبل حقاً؟ جوابي هو: نعم، بالتأكيد. لكنني على يقين بأن البحرينيين قادرون على تجاوز هذه المحنة كما تجاوزها في الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
من هنا أقول، لم يكن الخطاب السياسي لبعض «النواب» و «نجوم الضجة» راقياً طيلة فترة الأزمة قبل أكثر من عام، لكنه لم يكن يوماً خطاباً بائساً إلى هذا الحد… وفي بورصة المصالح و «عكاظ» الأنانيات المريضة صار البعض يتسابق في ابتكار شتائم غير مسبوقة وتوزيعها على غرمائه السياسيين، فالإساءة لمكوّن وطني واجتماعي في البلد له عراقته التاريخية وثقله الديموغرافي صار صيحة من صيحات حب الظهور، والطعن في وطنية بل و «نسب» رموز محترمة صار موضة يستعين بها بعض المغمورين لتحقيق شهوة الظهور والنصر الزائف.
هل يحتاج البحرينيون اليوم إلى استصدار «كشف حساب وطني» يغطي فترة 15 شهراً من جهة ما ليتبينوا ما إذا كانوا وطنيين حقاً أم لا؟! وأنهم يعشقون البلد الذي ولدوا وتربوا فيه؟ هل ولاؤهم للبحرين أم لجزيرة الكنز؟
إن لعدم المساواة في كل مكان وبلد ينتج عنه «عدم الاحترام» والشعور بالهيمنة والفوقية للبعض والمعاناة من الدونية للبعض الآخر وحاجة البشر للاحترام ماسة. لكن لا يتحقق ذلك مادياً وسيكولوجياً إذا كانت الفجوة الاقتصادية والسياسية كبيرة والتي ستشكل بشكل أو بآخر فجوة من نوع آخر هي الفجوة الاجتماعية.
علماء الاجتماع يقولون إذا كانت اللامساواة كبيرة سيكون التفاعل بين الناس أقل مما يؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية. وهذا يقود إلى ثقة أقل بين الناس وعنف أكبر واضطهاد أكبر سواء للأقليات أو للفئات الضعيفة (النساء والأطفال) وبالتالي يحدث النكوص الاجتماعي أو حالة اللانضوج المسببة لفعالية اقتصادية قليلة أي قلة التجانس الاجتماعية والإنتاجية الاقتصادية. اللامساواة إذن تعمل ضد التعددية بما لها من إيجابيات جمة للمجتمع الناجح.