محمود القصاب
في ظل ما تمر به المنطقة من تحولات مصيرية، لو وقف أي مراقب أو محلل سياسي أمام الصورة الكلية للمشهد السياسي البحريني الراهن بكل تعقيداته المربكة، والغموض الذي يلفه، سوف لن يعجز عن تلخيص هذا المشهد أو وصفه ببعض الأوصاف أو العبارات القليلة التي تنطوي على الكثير من الآلام والخوف والقلق، لأن الصورة بواقعها الحالي لا تدعو إلى التفاؤل وتفتح الأبواب أمام تطورات لا تبشر بالخير، أننا أمام حالة من الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية، التي تفتح البلد على كل الاحتمالات الخطرة، وليس في هذا القول أية مبالغة أو إفراط في التشاؤم، فالشواهد المعروفة، والحوادث اليومية التي يقذف بها الواقع – صبح،مساء – في وجوهنا، هي أكثر من أن تحصى، وفيها ما يغني عن أي قول أو وصف!
وإذا ما تجاوزنا هذه الحالة «المأزومة» و «الفوضوية» التي نعايشها ونلمسها إلى ما هو قابع في النفوس من غضب واحتقان يصعب قياس حجمها أو مخاطرهما بالحسابات العادية، نكون نحن حقاً أمام ما هو أشد وأكثر خطورة، فالبيئة الاجتماعية البحرينية قد تعرضت إلى هزات بنيوية عنيفة وكارثية، بل إنها ضربت في مقتل كما يقال، أما التعايش الأهلي فقد تعرض هو الآخر إلى هدم لمرتكزاته وأسسه بشكل فاق كل توقع واحتمال، حتى بات المرء يخشى من أن هذا البلد صار يفتقر إلى «العقول» الواعية والفاعلة، وأن بعض أناسه قد «هجرتهم الضمائر» الحية والإنسانية.
ترى هل يتحمل بلدنا الذي عرف عبر تاريخه بالطيبة والتسامح والوعي مثل هذه الحالة المأزومة؟ وهل ثمة مخرج من هذا المأزق الذي يعاني الجميع منه؟
عندما بدأ الحراك الشعبي الإصلاحي قبل عام كان ينبئ بوجود أزمة سياسية اجتماعية ودستورية تحتاج معالجة سريعة، وكان قطار هذه الأزمة لايزال يراوح في محطته الأولى (السياسية) التي كان في الإمكان اجتيازها بسلام دون أي أضرار، في محطة البداية هذه كانت الصورة واضحة وجلية، وفي إطارها شاهدنا جزءاً كبيراً من شعب البحرين يتحرك بعفوية لإفراغ كل المظالم والشكاوى المختزنة منذ عقود، وكان من الحكمة والحصافة، بل من الضرورة السياسية والوطنية سماع تلك المظالم بعقل سياسي منفتح، والتجاوب معها أو بعضها بإرادة سياسية صادقة، وكان من الممكن إقناع ركاب القطار بمغادرته بهدوء لو تم الالتزام والوفاء بالوعود التي قطعت إليهم بشأن توفير بعض مطالبهم – آنذاك – عندما جرى الإعلان عنها على شكل مبادرات وأفكار سياسية تعالج هذه الأزمة قبل تفاقمها (مبادرة ولي العهد) من خلال الحوار، أي عندما مازلت الأزمة في «فضائها» السياسي قبل أن يتم دفع قطارها قسراً وعنوةً إلى «محطته» التالية وهي «المحطة الأمنية»، وكما هو معروف أن فضاء وحدود هذه المحطة يتسم بالضيق دائماً، ولا تتوافر فيها أية إمكانية للحلول والتسويات السياسية، ولا مجال فيها لطريق التنازلات والتوافقات!
لأن ما يحرك هذا الخيار هو زهو القوة وخيلاؤها وأوهامها أيضاً، وعادة ما ينطلق دعاة هذا الخيار من فرضية وهمية تقوم على إمكانية جعل الطرف الآخر يوقع صاغراً على وثيقة الاستسلام، من خلال زيادة جرعات التنكيل، وبالتالي إخماد أو إسكات صوته إلى الأبد، ولم يعد سراً أن هذا الخيار هو الذي قاد الأزمة السياسية في البلاد إلى منعطف خطير لم نعد قادرين على اجتيازه ووقف تداعياته حتى اليوم، وهي تداعيات كما نعرف قد طالت «الأعناق» و «الأرزاق» كما طالت سمعة ومكانة البلد على المستوى الدولي.
فقافلة الشهداء قد تجاوزت الثمانين شهيداًً، أما الذين جرى فصلهم من وظائفهم فقد بلغ العدد وفق تقرير بسيوني أكثر من (2000) موظف في القطاع العام وأكثر من (2400) في القطاع الخاص لمجرد مشاركتهم في الحراك الشعبي السلمي، أو دعمهم له (تم إرجاع الغالبية منهم)، ولسنا في حاجة لسرد ما انتهت إليه علاقة الدولة بالمنظمات الدولية، فهذه قصة لها فصول عديدة.
حصل كل هذا عندما جرى إطلاق العنان لسياسية العقاب الجماعي لدوافع سياسية وطائفية، ورأينا القرارات والإجراءات العقابية الصارمة والقاسية التي وصلت إلى أقصى مدى يمكن أن تبلغه، لتزيد من تفاقم الأزمة واستفحالها، وكان الوطن كله هو الضحية لهذا الخيار الخاطئ سياسياً والقاصر وطنياً وإنسانياً، وخاصة بعد أن أخذت هذه الأزمة أبعاداً خطيرة بارتداء لبوس الطائفية، ودخول أطراف وقوى غلب على خطابها وسلوكها منطق المغالبة والاستئثار، ومكابدة الخصم السياسي واعتماد أسلوب التحريض وإشاعة أجواء الكراهية المذهبية، بصورة تعكس شهوة عارمة للسيطرة والاستحواذ.
ورغم ما تدعيه هذه القوى من خوف على الوطن والحرص على وحدته الوطنية واستمرارها في توجيه تهم «العمالة» و «الخيانة» للقوى السياسية المعارضة -رغم كل ذلك – فإننا لم نرَ أو نسمع منذ بداية الأزمة حتى يومنا هذا ما يؤكد هذه الادعاءات، بل على العكس فإن كل المواقف والخطابات السياسية والسلوك العملي لها تؤكد أن هذه القوى لا تؤمن بالشراكة الوطنية ولا بالتعايش السلمي أو القبول بالاختلاف السياسي، وأن كل ما تريده أو تسعى إليه هو إخضاع الآخر وإلحاق الهزيمة المنكرة به، بل ومسح ملامحه وتاريخه للاستحواذ على حقه ومساحته في هذا الوطن من خلال الرديح الطائفي الذي يوغل الصدور، وقد جاءت التطورات اللاحقة لتقدم البراهين الواحد تلو الآخر على أن هذه القوى غير قادرة على تقديم نموذج سياسي وطني مقبول ويلتزم ولو بالحدود الدنيا من أخلاقيات العمل السياسي الوطني والإنساني، لذلك لم يصدر عنها أي موقف إيجابي أو التقدم بأي مبادرات أو خطوات سياسية لحل الأزمة. بل نراها مسمرة عند رؤيتها وروايتها المزعومة للأحداث، رافضة التزحزح قيد أنملة، خارج هذه الرؤية، رغم تكشُّف الكثير من الحقائق وتبذل الكثير من المعطيات على الأرض؟ فالحقيقة الشاخصة اليوم هي أن هذه القوى قد أصبحت جزءاً من الأزمة، وأنها هي المسئولة عن استمرار عوامل وأسباب الانفجار السياسي والاجتماعي والطائفي في البلد، ومن يرى أو يعتقد خلاف ذلك، عليه أن يقدم لنا دليلاً واحداً ينفي صحة هذا الرأي.
أما الحقيقة الأخرى، فهي أن الدولة باتت اليوم عاجزة ولا تمتلك الجرأة ولا الإرادة على مقاربة الأسباب الحقيقية للأزمة ومجرياتها. مع غياب الرؤية الحقيقية والمتكاملة للإصلاح وللعدالة والمشاركة الفعلية. لذلك نجد هذا التخبط والارتباك اللذان نراهما في السياسات والقرارات التي تقدم عليها، والنابعان أساساً من حالة الإنكار المتشبث بها والمستمرة فيها منذ بداية الأزمة، ولا يخفى أن إنكار أسباب الأزمات عادةً ما يعزز استمرارها وعودتها. ولعل قمة الإرباك أو الفشل الذي يمكن أن تصل إليه أي دولة، عندما تصبح هذه الدولة، وأجهزتها المختلفة حاضنة لبعض المواطنين ورافضة أو نابذة للبعض الآخر منهم؟ أو عندما يكون الانتماء الطائفي للمواطن هو العنوان الحقيقي الذي يتم التعامل به معه؟ عند هذه الحدود يكون أي حديث عن دولة المواطنة، ولقانون والعدالة مجرد لغو فارغ لا قيمة له! وتكون كل الخطوات ليس أكثر من ذر الرماد في العيون. طالما بقيت أفق الحلول السياسية العادلة مسدودة هكذا إلى ما لا نهاية والثقة بين الأطراف معدومة.
نحن في الحقيقة ندور في دائرة شيطانية كل حلقاتها عبارة عن أزمات تولد بعضها البعض، وهي أشبه بكرة اللهب التي تزداد اشتعالاً مع الوقت، فالخيارات السياسية الخاطئة المتبعة هي من يولد النزاعات والتوترات الطائفية ويعيد إنتاجها، وهذه بدورها تجعل فرص الحلول العقلانية شبه معدومة إن لم تكن مستحيلة!
ومن المؤسف القول إن هذا الوضع يساعد أولئك الذين عملوا ومازالوا على اختصار الأزمة في إطارها الطائفي أو نسبتها إليه، وكأن قضية البحرين اليوم تكمن في الخلاف المذهبي، أو في وجود التمايز الفقهي والعقدي بين هذين المذهبين الكريمين، رغم الحقيقة التي تؤكد أن ما يثير وجع الناس ويستفز مكامن الغضب فيهم ليس اختلافهم المذهبي مع إخوانهم في الدين، إنما حرمانهم من العدالة والمساواة، وشعورهم بالظلم والتمييز الواقع عليهم من خلال ما يتعرضوا له من إقصاء وتهميش وتنامي خطاب التحريض والكراهية بكل أشكاله ومستوياته، الموجه لهم، وهذه وقائع طائفية مقيتة توتر الأجواء، وتزيد الأزمة اشتعالاً والفجوة اتساعاً… حفظ الله البحرين.