منصور الجمري
الطرح القائل بوجوب تحقيق «تسوية سياسية» للأزمة المستمرة يتخذ من تجارب ماثلة أمامنا في بلدان عدة. ففي إقليم «شمال ايرلندا» كان هناك صراع مستمر اتخذ لوناً طائفيّاً على مدى سنوات طويلة، وتعمق الخلاف السياسي بحيث كان، مثلاً، طفل كاثوليكي يفتح عينيه على الحياة وهو يتمنى أن يلحق بالحركات المعارضة التي يتخذ بعضها العنف طريقاً لتحقيق الأهداف، بينما يفتح عينيه طفل آخر ينتمي إلى المذهب البروتستانتي وهو يفكر في المركز السياسي أو الاقتصادي الذي سيحصل عليه. في الأخير كان لا بد من «تسوية سياسية» تحققت من خلال «اتفاق الجمعة العظيمة» الذي أحدث تطوراً سياسيّاً كبيراً في 1998 لأنه كان اتفاقاً متعدد الأطراف من قبل معظم الأحزاب السياسية في إيرلندا الشمالية، وكان في الوقت ذاته اتفاقاً دوليّاً بين الحكومتين البريطانية والإيرلندية، ووضع الاتفاق سلسلة معقدة من القواعد المتعلقة بمستقبل الإقليم ونظام الحكم في إيرلندا الشمالية، والعلاقة بين إيرلندا الشمالية والمؤسسات في كل من جمهورية إيرلندا والمملكة المتحدة، وحقوق الإنسان، ومبدأ الاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع، ونزع السلاح ومكافحة العنف عبر قوى أمن ومؤسسات يشترك في إداراتها جميع أبناء الإقليم، وتحوّل أعداء الأمس إلى زملاء في إدارة الإقليم.
هناك تسويات عدة أخرى في مختلف أنحاء العالم… «اتفاق الطائف» في 1989 لتحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية جرى بين أعضاء البرلمان اللبناني القديم (1972) من الباقين على قيد الحياة، وشمل الاتفاق إصلاحاً سياسيّاً، وإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، عبر نقل بعض من السلطة من الطائفة المسيحية المارونية إلى الطوائف الأخرى.
«التسوية السياسية» مخرج للأزمات المزمنة، وهي مخرج يتم الاتفاق عليه بين النخب والأطراف السياسية والحقوقية، وتقوم هذه الجماعات بإقناع أنصارها بالموافقة على التسوية. فالتسوية السياسية في نهاية الأمر لن تكون عادلة بالكامل، ولن تكون ديمقراطية بصورة تامة، وإنما هي وسيلة لإخراج الوضع المتأزم من حالته المزمنة إلى حالة أخرى يمكن من خلالها أن يتعافى المجتمع ويتعافى الاقتصاد وتهدأ التوترات السياسية. والتسويات السياسية الناجحة تتطلب اعتراف الأطراف باختلاف وجهات نظرهم، وتتطلب التنازل إلى بعضهم بعضاً، وتتطلب التوصل إلى تفاهم يخرج استخدام العنف من قبل المعارضين، ويخرج استخدام القوة من قبل الماسكين بزمام الأمور، من طريقة التعامل مع الوضع.
التسوية السياسية تستهدف وضع حد للصراع الذي يبدو أزليّاً، كما تستهدف تحويل طريقة إدارة الشئون العامة من النمط الاستبدادي إلى أنماط أخرى أكثر تعددية وأكثر ديمقراطية. والتسوية السياسية الناجحة تصل إلى تفاهمات معمقة بين النخب والأطراف الفاعلة على الساحة، وهذه التفاهمات تُبنى على شعور قوي يولد قناعة بأن عدم المرونة في التعامل مع الوضع، والاستمرار في حالة الإنكار، واتهام الآخر بكل أصناف الاتهامات، والتنكيل به سعياً إلى سحقه، سيؤدي إلى خسارة وإنهاك الجميع، لأنه لن يتمكن هذا الطرف أو ذاك من القضاء التام على مخالفيه.
إن علينا أن نستكشف الطرق التي ربما توصلنا إلى تسوية سياسية تحفظ نسيجنا المجتمعي المتنوع، وتعزز احترام الدولة، على أساس إدماج مختلف المكونات في هيكليات السلطة، على أن يكون كل ذلك ضمن خطة واضحة المعالم وجدول زمني، بمساعدة جميع من يحب لبلادنا أن تعيش بخير وأمان ضمن محيطها الخليجي والعربي.