د/علي محمد فخرو
عندما كتب الدكتور جان زيغلر كتابه الشهير “سادة العالم الجدد” من النهابين والمرتزقة المسيطرين أساساً على الاقتصاد العولمي الرأسمالي، تطرق إلى ما أسماه أيديولوجية هؤلاء السادة التي وضعت تحت اسم بريء يعرف بـ”توافق واشنطن”، هذا التوافق الذي وضعته مؤسسات دولية من مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومؤسسات مالية أمريكية من مثل البنك المركزي الأمريكي، والعديد من كبرى الشركات العابرة للقارات، يتماثل مع ما يعرف بالأيديولوجية النيولبرالية المهيمنة على مجتمعات العالم بنسب مختلفة . من بين أهم ما جاء في ذلك التوافق تخفيض الضرائب على الدخول العالية وعدم استثناء الفقراء من دفع الضرائب، والتحرير التام للأسواق المالية، وتفكيك القطاع العام، ومساواة الاستثمارات الوطنية مع الأجنبية، وحرية التنافس بين قوى السوق، وتخفيض الرسوم الجمركية، والحد من عجز الميزانية العامة، وإلغاء كل أنواع الدعم للسلع الغذائية وغيرها .
نحن هنا أمام أناس يضعون في الواقع البرامج التطبيقية لنظريات اقتصادية كلاسيكية أسهم في وضعها العشرات من كتاب ومفكري الاقتصاد، أخطر ما فيها أن واضعيها ادعوا بأنها نظريات تنتمي إلى علم اقتصادي لا يقل في صرامته وموضوعيته عن العلوم الطبيعية (علوم الفيزياء والكيمياء . . إلخ) .
أي أن الاقتصاد الذي يتحدثون عنه ويطلبون من العالم تبنّيه قائم على مسلمات واستنتاجات وتوجيهات وأنظمة حتمية لا راد لقدرها، تماماً مثل العلوم الطبيعية . فمثلما أن الماء يتكون من ذرات الأوكسجين والهايدروجين، وأن لا قرار في الدنيا يمكن أن يغيّر هذه الحقيقة الطبيعية، فكذلك مثلاً هو اقتصاد السوق الذي يحكمه التوازن بين العرض والطلب من دون أن يستطيع أحد تغيير هذه “الحقيقة”، وقس على ذلك الكثير من الادعاءات عن القوانين “العلمية” التي تحكم حقل وممارسات الاقتصاد .
يقابل تلك الادعاءات تيار من داخل الفكر الاقتصادي نفسه يخالف الإدعاء بأن علم الاقتصاد مماثل للعلوم الطبيعية، وبالتالي لا يمكن تغيير أقواله واستنتاجاته، ويطرح أن الاقتصاد هو أحد العلوم الاجتماعية، وبالتالي من وضع البشر وقابل للأخذ والعطاء ومسلماته ليست حتمية وقابلة للقبول أو الرفض .
من هنا صدور كتب من مثل كتاب الكاتب الفرنسي الاقتصادي جاك جنرو تحت مسمى “قوانين الاقتصاد الحقيقية” . في هذا الكتاب يتحدث الكاتب عن عشرين قانوناً من قوانين الاقتصاد الكلاسيكي ويظهر المثالب والتناقضات والإشكالات التي تعجّ بها تلك القوانين التي قبلها الكثيرون كمسلمات لا تقبل الجدل، بسبب الادعاء بأن الاقتصاد هو علم قائم على الرياضيات، تماماّ كعلم الفيزياء مثلاً .
ليعذرنا القارئ لإقحامه في جدال أكاديمي اقتصادي، ولكن عندما يخرج المفكر الفرنسي باستنتاجات من مثل أن علم الاقتصاد هو علم بشري يضعه الإنسان، وأن ليس صحيحاً أن أنشطة السوق تصحح بعضها بعضاً ولا تحتاج إلى أيّ تدخل من قبل الدولة، وأنه ليس بصحيح أن الاقتصاد الخاص هو أفضل في جميع الأحوال من الاقتصاد العام، وأن العدالة يجب أن تكون جزءاً مهماً يحكم مسيرة الاقتصاد، وأن هناك كل الدلائل على أن التنافس السيئ يطرد التنافس الطيب المعقول، وأنه كلما زاد وعظم تقاسم الثروة في المجتمع زادت الثروة، وأخيراً بأن علم الاقتصاد وممارساته يجب أن يكون محكوماً من قبل علم السياسة وممارساته . . عندما يخرج الكاتب بكل هذه الاستنتاجات، وغيرها كثير ، فإن الموضوع يصبح موضوعاً يهمنا .
لماذا؟ لأن الكثيرين من كتاب الاقتصاد العرب ومن الاقتصاديين المتحدثين على شاشات التلفزيون يتبنون بصورة عمياء حماسية كل مسلمات الاقتصاد الكلاسيكي، وكل تطبيقات “توافق واشنطن”، وكل تخريفات مدرسة شيكاغو المسوقة للنيولبرالية . ومن بين هؤلاء العرب من هم في مراكز السلطة واتخاذ القرار، أي ممن يسهمون في وضع السياسات الاقتصادية العربية المنبهرة بكل ما تقوله أبواق العولمة الاقتصادية، من دون مساءلة ومن دون انتقاء لما يصلح لمجتمعاتنا وللمرحلة الاقتصادية العربية الحالية التي لها متطلباتها الخاصة بها .
ونحن مع المؤلف الفرنسي بأن مسلمات الاقتصاد هي من وضع البشر وأنها يجب أن تحكم من قبل السياسة، غير الفاسدة المرتشية الاستبدادية بالطبع، وأن السياسة إذاً، هي أيضاً يجب أن تخضع لحكم المواطنين ورقابتهم ورضاهم، عند ذاك لا نبقى محكومين من قبل توافقات في واشنطن أو غيرها، ولا تحكمنا مصالح مؤسسات دولية ليس لنا سلطان عليها . الأمل كبير في جمعيات علم الاقتصاد العربية في أن تخلق تياراً إنسانياً عادلاً في حقل الاقتصاد العربي وأن تكون لها مواقفها التحليلية الموضوعية الصارمة المستقلة .