عبدالباري عطوان
ضجة اسقاط الطائرة الحربية الاردنية واسر قائدها ما زالت تتفاعل في الاردن، فبعد امتصاص جزء غير يسير من الصدمة الشعبية والرسمية المترتبة على ذلك ، بدأت السلطات الاردنية تروج اعلاميا لروايتها التي تؤكد ان “الدولة الاسلامية” لم تسقط الطائرة، في تبن واضح للبيانات الامريكية المقتضبة، ولكنها لم تقدم اي دليل في هذا الخصوص، ولم توضح كيفية سقوط الطائرة، واكتفت ببعض التكهنات على لسان خبرائها العسكريين من بينها الخلل الفني او الخطأ البشري.
“الدولة الاسلامية” في المقابل اكتفت بتقديم مجموعة من الصور عن اسر الطيار الملازم معاذ الكساسبة، والتزمت الصمت الكامل بدورها ولم “تتباه” باسقاط الطائرة، او تأكيد كيفية اسقاطها في الوقت نفسه، وتركت الازمة والدفاع عن النفس وتقديم التبريرات للاردنيين.
لا نفهم لماذا هذه الهجمة من قبل “الخبراء” العسكريين التي تنفي بكل الطرق والوسائل اسقاط “الدولة الاسلامية” لهذه الطائرة، وكأن هذا الاسقاط لو تم بأحد صواريخها او دفاعاتها الارضية “اثما” كبيرا لا يجوز الاقتراب منه، فمن يسقط الطائرات هي الصواريخ الامريكية والاسرائيلية فقط، او ان الطائرات الامريكية “محصنة” من السقوط بصواريخ “التخلف العربي والاسلامي”، وعليها ان تتغول في الاذلال العربي كيفما شاءت دون ان يعترضها او يجرؤ على اعتراضها احد.
جميع الروايات التي “افتت” بعدم سقوط الطائرة الاردنية بصاروخ او دفاعات ارضية، واكدت ان سقوطها جاء من خلال عطل فني على الارجح، اعتمدت على صور بعيدة وليس من خلال فحص علمي دقيق للحطام، وهذا قصور خطير، ومحاولة تضليل مقصودة للرأي العام العربي بالدرجة الاولى، خاصة ان اصحاب هذه “الفتاوى” لامونا دائما كعرب واتهمونا بالتسرع وعدم الموضوعية، والايمان بنظرية المؤامرة دون تمحيص.
هناك اربع دول عربية ارسلت طائرات للمشاركة في التحالف الدولي الامريكي لقصف مواقع وتجمعات ومصافي “الدولة الاسلامية” هي المملكة العربية السعودية والامارات وقطر والاردن، وقامت بمهمتها هذه دون اي مخاطر حقيقية، ولو كانت هناك مخاطر فعلية لما تحركت من مرابضها في بلدانها اساسا، فهذه طائرات جرى شراؤها للاستعراض العسكري فقط، او للمشاركة في طلعات جوية آمنة، وقصف اهداف آمنة، وبعد التأكد ان “العدو” لا يملك الصواريخ التي يمكن ان تطيح بها، وتسمح بأسر طياريها، ولا نعتقد بأن الحال سيستمر، وانها لن تشعر بالقلق بعد اسقاط الطائرة الاردنية، وستحسب الف حساب للحيلولة دون اسر طياريها، وعلينا ان نتخيل مشهد سقوط طائرة سعودية واسر طيارها “الامير” في المستقبل؟
نستغرب هذه الازدواجية في التعاطي مع الكثير من القضايا والوقائع المتعلقة بالحرب ضد “الدولة الاسلامية” ومقاتليها، فالبعض يشعر بـ”العار”، امريكيا كان او عربيا، لان صواريخ هذه الدولة اسقطت طائرة امريكية الصنع، ولكنه لا يشعر بالعار نفسه لان قوات هذه الدولة احتلت اكثر من نصف العراق وثلت سورية او اكثر.
لا مانع، وليس هناك اي عار، ان تسقط الارض العربية، الهكتار تلو الآخر، المدينة تلو الاخرى، في يد “الدولة الاسلامية” ومقاتليها، اما الطائرات الامريكية الصنع فسقوطها على ايدي عربية او اسلامية يعتبر من “ام الكبائر” اي تناقض هذا، ومن يستغبون في هذه الحالة غير المواطن العربي المخدوع والمسحوق؟
لا توجد حروب بلا خسائر، ولا توجد حروب بلا اسرى، وهذا الطيار الاردني الشاب الذي بدأوا يشككون في قدراته، ويحملونه مسؤولية اسقاط الطائرة حتى قبل ان يبدأوا التحقيق رسميا في كيفية السقوط ويفحصوا الحطام، كان يجب، في رأينا، ان يقاتل دفاعا عن الاردن في مواجهة اي عدوان، حتى لو كان من قبل “الدولة الاسلامية” او لاستعادة المقدسات المغتصبة في فلسطين، تماما مثلما فعل شقيقه وابن جلدته احمد الدقامسة القابع حاليا في سجون الاردن، فهو الذي ذهب لقتال الدولة، ولم تأت هي له ولبلده.
هذا الشاب معاذ الكساسبة لا يقل كفاءة وقدرة عن نظرائه الامريكيين في ميادين القتال، وليس ذنبه انه يقود طائرة امريكية الصنع قديمة متهالكة انتهى عمرها الافتراضي وجرى التخلص منها باهدائها الى الاردن او اي دولة عربية اخرى بدلا من تركها للصداء في عراء المخازن الامريكية.
السؤال الذي نطرحه هنا هو عن عدم هروع الطائرات الامريكية بطيار او بدونه، التي تجوب سماء المنطقة الانقاذ هذا الطيار فور سقوط طائرته، مثلما تفعل القيادة العسكرية الامريكية عادة مع طياريها، هل لانه عربي مسلم؟
سؤال آخر نطرحه من منطلق القواعد المنطقية وهو: اذا كانت الطائرة سقطت بسبب خلل فني، ونحن نعرف جيدا، ان هذه الطائرات مرصودة اليكترونيا ومجهزة بأجهزة حديثة جدا، ويمكن اصلاحها في الجو، فلماذا جرى تركها تسقط، ولماذا لم يفعل مركز التحكم الالكتروني اي شيء لانقاذها وطيارها؟
مرة ثانية نقول اننا في هذه الصحيفة “راي اليوم” لسنا خبراء عسكريين، ولكننا ننظر الى الامور من زاوية المنطق وعلم القياس ابرع العلوم التي توصل اليها اجدادنا واجادوها، ونحاول قراءة المعلومات المتوفرة وفق هذه المعايير للوصول الى بعض الاستنتاجات المنطقية، ونرفض ان نكون بين القطيع نساق مثله دون تفكير او تبصر.
نتعاطف كل التعاطف مع اسرة الطيار الكساسبة وعشيرته وكل ابناء الاردن في مواجهة هذه المحنة التي يعيشها ابنهم الطيار الشاب، ونضم صوتنا الى اصوات الكثيرين، وعلى رأسهم والده، الذي طالب “الدولة الاسلامية” بمعاملته كأسير حرب، وعدم ايذائه، واحسان معاملته، وفقا لاحكام ديننا وعقيدتنا وشريعتنا الاسلامية في هذا الاطار والاقتفاء بارث الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والصحابة، وآخرهم صلاح الدين الايوبي محرر القدس من الصليببن الذي قدم المثل والنموذج المشرف في هذا المضمار تحفظه كل المراجع العسكرية الغربية وتؤكد انسانيته واخلاقيته حتى يومنا هذا.
رغم وقوفنا في خندق المختلفين مع الاردن في انضمامه، ودول عربية اخرى الى التحالف الامريكي، الا اننا نتمنى مرة اخرى ان يعود هذا الطيار الاردني الشاب الى اهله في اطار صفقة تبادل اسرى على غرار صفقة السفير الاردني فواز العيطان الذي تعرض للاختطاف في ليبيا.
وعندما نقول اننا نختلف مع الاردن في انضمامه الى التحالف فاننا نستند هنا الى جذور الازمة في سورية والعراق، ونتوقف عند هؤلاء العرب والغربيين الذين وفروا الحاضنة الملائمة لتحويل البلدين الى دولتين فاشلتين، مما ادى الى نمو وازدهار الجماعات الاسلامية المتشددة، وضخ مليارات الدولارات وآلاف الاطنان من الاسلحة، وهم الذين (اي الحكومات العربية هذه) لم يوجهوا رصاصة واحدة تجاه الاراضي العربية المحتلة.
كلمة اخيرة نوجهها الى السفيرة الامريكية في الاردن اليس ويلز نطالبها فيها بالصمت وعدم بيع مشاعر كاذبة الى الشعب الاردني بقولها ان حكومة بلادها تعمل مع الحكومة الاردينة بضمان عودة الطيار الكساسبة سالما، وعليها ان تلتزم بالصمت، لان تدخلها وتدخل بلادها في هذه المسألة قد يعطي نتائج عكسية تماما وتعجل بالأسوأ، علاوة على ذلك انها لا تستطيع ان تفعل شيئا للطيار بعد ان اصبح اسيرا لدى جماعة تتباهى بالقتل وسفك الدماء، ويشكل هذا التوحش العمود الفقري لاستراتجيتها، وحكومتها اولا واخيرا هي سبب كل المصائب التي نعيشها في المنطقة، وآخرها مصيبة اسر الكساسبة.