فيصل جلول
لا يبدو اختزال الأهداف “الإسرائيلية” في الحرب على غزة بالانتخابات المقبلة في الكيان الصهيوني (يناير/كانون الثاني المقبل) مصيباً تماماً، فاستطلاعات الرأي كانت تعطي الائتلاف الحاكم فرصاً مريحة للفوز على خصومه المشتتين، وبالتالي ما كان “محشوراً” لخوض مغامرة عسكرية غير مضمونة النتائج لتحسين شروطه التنافسية، فضلاً عن أن الحرب السابقة على غزة لم تمنح قادة تلك الحرب النصر الانتخابي الكاسح والمأمول، لذا يمكن القول إن أسباب الحرب الراهنة على غزة مختلفة، ويمكن التكهن بعناصرها الآتية:
* أولاً: ما انفكت “إسرائيل” منذ نهاية الحرب السابقة على غزة تجري المناورات تلو المناورات تمهيداً لحرب تعد لها وتمارس التعبئة تارة ضد إيران، وطوراً ضد حزب الله، وثالثة ضد غزة، ورابعة ضد الأطراف الثلاثة إضافة إلى سوريا في سياق حرب شاملة ضد محور الممانعة والمقاومة، وما كان يمكن لهذه المناورات والاستعدادات المتتالية أن تظل بلا فعل عسكري تحت طائلة الارتخاء وهبوط المعنويات . . إلخ . ما يعني أن الحرب كانت حاجة “إسرائيلية” ماسة وليست انتخابية .
* ثانياً: اختارت “إسرائيل” التوقيت الدولي الملائم، حيث تستعد الإدارة الأمريكية لاختيار وزيرين جديدين للدفاع والخارجية، وهي لا تعبأ كثيراً بعودة أوباما إلى البيت الأبيض رغم الجفاء بينه وبين نتنياهو، ذلك أن واشنطن تعدّ حماس منظمة إرهابية ولا يمكن لها إلا أن تؤيد “إسرائيل” في كل حرب معها، كما لا يمكن لأوروبا أن تتخذ موقفاً مخالفاً للموقف الأمريكي، فهي أيضاً صنفت حماس منظمة إرهابية، ولم تكن يوماً إلى جانب المقاومة الفلسطينية في مختلف مراحل الصراع بين غزة و”إسرائيل” . مع فارق واحد هو أن أوروبا لا تؤيد اجتياحاً برياً لغزة بخلاف الولايات المتحدة التي تحمي العدوان “الإسرائيلي” في كل ظرف .
* ثالثاً: ربما اعتقد نتنياهو أن الظروف العربية ملائمة تماماً لعدوانه على غزة، فسوريا محتربة منذ عامين ويحيطها انقسام عربي وإقليمي خطر، في حين أن مصر في عهدها الجديد كما في عهدها السابق لا تتمتع بهامش كبير للمناورة، وبالتالي الاصطفاف إلى جانب المقاومة والابتعاد عن الولايات المتحدة و”إسرائيل” وعن العرب الذين يحتاج إليهم الحكم الجديد بقوة، علماً أن الهم الأكبر للقاهرة في عهدها الجديد هو الحصول على قروض ومساعدات خارجية لتلبية مطالب ملحة لملايين المصريين الذي أيدوا “الثورة” وليس تغيير الاستراتيجية المصرية في الشرق الأوسط .
* رابعاً: تعدّ غزة بنظر “الإسرائيليين” الحلقة الأضعف فهي محاصرة براً وبحراً وجواً وتمتد على مساحة صغيرة (360 كلم2)، ويمكن للآلة العسكرية “الإسرائيلية” التحكم بها، وهي على طرفي نقيض مع السلطة الفلسطينية في رام الله، فضلاً عن أن حماس القوة الأبرز في القطاع قد خرجت من سوريا وانتقلت قيادتها إلى قطر وبالتالي ضاق أمامها هامش المناورة، فهي لا تستطيع أن تحافظ على استراتيجيتها السابقة . والراجح أن “إسرائيل” راهنت من خلال اغتيال الجعبري وضرب البنية التحتية لحماس والجهاد والمنظمات الأخرى على إضعاف التيار المقاوم لمصلحة خصومه الذين لا يريدون مقاومة وانتفاضة ثالثة . . إلخ .
* خامساً: كان لا بد من اختبار الاستعدادات العسكرية “الإسرائيلية” ولاسيما الهجوم الجوي لمسافات بعيدة، وقد تم بنجاح في قصف مجمع اليرموك للصناعات العسكرية في السودان، وقيل إن هذا الهجوم أشبه ب “بروفة” للهجوم المرتقب على إيران . من جهة ثانية كان لا بد من اختبار فعالية القبة الحديدة في هجوم مباغت وقصير على غزة ضمن اعتقاد مفاده أن هذا الاختبار مع غزة هو بكل المقاييس أقل كلفة من اختبارها مع أطراف أخرى، علماً أن خروج حماس من دمشق جعلها عرضة لضغوط عربية فعالة أكثر بما لا يقاس مما لو بقيت في سوريا .
إذا كانت تلك هي بعض حسابات نتنياهو في الهجوم على غزة، فإن الأيام الأولى للحرب كشفت النقاب عن ردود فعل فلسطينية غير مسبوقة، حيث وصلت الصواريخ إلى القدس و”تل أبيب” والكنيست وأماكن رمزية ما كانت “تل أبيب” تتخيل أن أحداً سيجرؤ على مسها يوماً، واستخدمت المقاومة صواريخ جديدة من نوع كورنت وأخرى ضد البوارج الحربية، فضلاً عن كثافة إطلاق الصواريخ التي أجبرت أعضاء في الحكومة الصهيونية على النزول إلى الملاجئ، ما أدى إلى إرباك خطر في أداء الحكومة الصهيونية التي تطلب بإلحاح من واشنطن والأوروبيين التوسط لدى حماس من أجل وقف إطلاق النار .
أما عن تحسين الردع الذي تحدث عنه نتنياهو في غرة العملية “الإسرائيلية”، فقد انهار تماماً من جراء التعرض الفلسطيني الناجح لرموز الدولة الصهيونية والعجز الواضح عن تخويف الفلسطينيين بعملية برية، ما يتيح القول من دون تردد إن رئيس الوزراء الصهيوني ارتكب في عملية غزة خطأ قد يكلفه مستقبله السياسي، ولربما يمتد أثره إلى مستقبل الكيان الصهيوني نفسه .