عبدالنبي العكري
يفهم من عبارة الدولة بأنها منظومة متكاملة ومتعاونة لإدارة شئون البلاد والعباد، ويفهم من عبارة السياسة أنها مشتقة من «ساس»، أي أحسن القيادة، وهي حسن إدارة أمور البلاد والعباد. لكن الدول كسائر المخلوقات البشرية تصاب بالمرض والتوعك، وتصاب أحياناً بالانحطاط، وكذلك هي السياسة التي هي من صنع البشر، فهي تنحرف أيضاً عن مسارها وتمرض وتصاب أيضاً بالانحطاط.
العلاقة بين الدولة والسياسة متبادلة، بل هما وجهان لعملة واحدة. فإذا تعافت السياسة تعافت الدولة، وإذا انحطت السياسة انحطت الدولة… والعكس صحيح.
ما يحدث في معظم دولنا العربية، أن الدولة التي نمت وترعرعت بعد الاستقلال، وكان يؤمل منها تحقيق الأهداف التي استشهد لأجلها الكثيرون وقدم الشعب الكثير من التضحيات عن طيب خاطر، قد تدهورت. وأن السياسيين الذين وصلوا إلى السلطة باسم النضال من أجل الاستقلال أو استمروا في مواقعهم بالانتقال من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال، انحرفوا بالسياسة العامة حتى الانحطاط.
إن الدولة تنحط عندما تختزل في أجهزة الحكم المباشرة، فالدولة أكبر من أجهزة الحكم أو الأنظمة الحاكمة، فأنظمة الحكم يمكن أن تتغير، فيحل نظام جمهوري محل نظام سابق أو العكس، وتبقى الدولة. فالدولة المثالية حسب الفيلسوف هيجل «تجسيد للفضيلة»، وهي تنحط عندما يختزل النظام في طبقة أو نخبة أو عصبة حاكمة، تدير الدولة كإقطاعية خاصة.
النظام الحاكم يجب أن يكون شبكة متكاملة وأجهزة مستقلة ومتعاونة، يعبّر عن مجموع مصالح وقوى المجتمع بتعدّدها وتنوعها. وتنحط الدولة أكثر عندما يختزل مركز القوة والقرار بفرد أو مجموعة قليلة من الأفراد، تدير الدولة كشركة خاصة أو مزرعة، وتشخصن السياسات والتشريعات والمؤسسات وتحشوها بالأنصار والمحاسيب.
أما الانحراف بالسياسة ثم انحطاطها، فيحدث عندما لا ترتبط السياسة برسالة في الحكم أو الأخلاق أو القيم أو الضوابط. أي عندما تصبح السياسة «وسخة وبلا دين»، كما يكرّر الكثيرون. السياسي النبيل هو من يقوم بإدارة الشأن العام سواءً أكان في الحكم أو المعارضة، كلاً من موقعه، بهدف تحقيق رسالة نبيلة، وخدمة أبناء شعبه وتقدمه ورقيه، وتعزيز علاقات بلاده مع شقيقاتها وجيرانها ومع العالم أجمع، في عالمٍ تحوّل إلى قرية، هدفه تعزيز السلام المحلي والإقليمي والدولي.
السياسي النبيل هو الذي يسعى من خلال حزبه أو تكتله أو لوحده، إلى تحقيق برنامجٍ يعتقد أنه سيحقق ذلك، فإذا لم يتحقق استقال أو تنحّى عن السلطة، أو نُحّي بطريقةٍ ديمقراطيةٍ وهو راضٍ بذلك، وينتقل من موقع الحكم إلى موقع المعارضة أو اعتزال الحياة السياسية تماماً، كما يحدث في الدول الديمقراطية الحقة وليس الشكلية.
قبل أيام تم تداول فيديو على موقع «اليوتيوب» لرئيس وزراء النرويج، وهي دولة نفطية غنية، وهو متنكرٌ كسائق تاكسي، لكي يتعرّف على واقع الناس وأحوالهم وآرائهم بعيداً عن أروقة الحكم. كما شاهدنا قبلها حاكم بلدية شيكاجو (إيمانويل) أكبر مدينة أميركية وهو يتنقل مستخدماً الباص والمترو حتى يقف بنفسه على أوضاع النقل العام، والإطلاع على الشأن العام. أما ما حدث ويحدث في إدارة السياسة في الدول العربية هو انحطاط بكل ما للكلمة من معنى.
لقد أضحت السياسة بلا أخلاق ولا قيم ولا أهداف مشروعة، وأصبحت السياسة وسيلة إما لتعزيز السلطة لمن وُلِدوا وهم فيها، أو للوصول إلى السلطة والإمساك بها قسرياً حتى الموت الطبيعي أو بالإكراه. أضحت السلطة وسيلةً للسيطرة القهرية ونهب موارد الدول، ودمج السلطة بالثروة، وأدّت بالتالي إلى فجوة كبيرة بين السياسي وبين عامة الناس الذين أتوا به أحياناً إلى السلطة.
حالنا اليوم في بلداننا العربية السعيدة، أن هناك عداءً مستحكماً بين الدولة والشعب نتيجة السياسات الكارثية. الدولة برأي الشعب «أداة قهر وإخضاع واحتكار»، كما يقول كارل ماركس، والشعب بنظر الدولة وسياسييها رعاعٌ يتوجب اقتيادهم بالإكراه والحيلة أحياناً، وأحياناً بالخداع وتغييب الوعي، وبثّ الفرقة فيما بينهم، وزرع الفتن في أوساطهم حسب النظرية البريطانية «فرق تسد».
انظر من حولك وتفكّر في أوضاع البلاد والعباد. ولكن هل نيأس ونُسلّم بالأمر الواقع؟ لا بالطبع، فالإنسان المتشرّب بقيم الخير والحق والحرية والكرامة، هو من يتصدّى للإنسان المتشرّب بالظلم والقهر والاستغلال والسيطرة، وهذا هو تاريخ صراع البشرية منذ نشوئها حتى زوالها.