لا أحد يريد أن يتعلم الدرس من الحكام العرب، الذين ثارت ضدهم شعوبهم، لا أحد يريد أن يعي أن كرامة الإنسان العربي غير قابلة للامتهان والانتهاك أو التجريح، وأن الإنسان العربي صبور إلى مدى لا يتحمله بشر غيره، يتحمل ويتحمل، لكنه، وعند مدى معين، وعند نقطة ما تبقى من أهم أسرار شخصيته الوطنية والقومية ينفجر كالبركان، لا يمكن لأي قوة أياً كانت أن توقف اندفاعه قبل أن يستكمل مشواره الذي اختاره، ولا أحد يريد أن يصدق من كل هؤلاء الحكام أن جلوسه على كرسي الحكم ليس تكليفاً من الشعب، وأن هذا التكليف هو أصل شرعية الحكم، وأن الشرعية لا تقوم إلا على الرضا الطوعي للشعب، وأن الشعب وحده هو الذي يقرر، بإرادته الحرة المستقلة أن يبقي على شرعية الحكم أو يسحبها، ولا أحد يريد أن يقرّ ولا أن يعترف بأن وصوله إلى الحكم ليس لأنه أفضل من خلقهم الله، وأكثرهم حكمة ووعياً وتعليماً وفهماً وحصافة واقتداراً، ولكن وجوده يرجع إلى توافق إرادات الأمة والشعب على شخصه، وأن وجوده في الحكم وجود مؤقت ومرهون بهذه الإرادة. لكنهم، في معظمهم، يتنكرون لهذا كله عند جلوسهم على كرسي السلطة، ويبدأون في ممارسات تنم عن تفرد مطلق، وتجاوز وامتهان لحقوق الشعب وحرياته، ويبدأ في انتهاك هذه الحقوق ويصادرها، ويتصور أنه يملك الخلود، وأنه سوف يبقى إلى آخر نفس في حياته حاكماً ضارباً عرض الحائط بالحقيقة التي يريد أن ينساها الشعب، وهي أن وجوده دائماً مؤقت كحاكم وأنه إلى رحيل حتماً، بعضهم وصل به الغرور إلى درجة نسيان وإنكار حقيقة الرحيل، ليس فقط من الحكم، بل من الحياة كلها، ومن اعترف جزئياً بهذه الحقيقة مجبراً سعى إلى فرض الخلود لنفسه عن طريق توريث الحكم لأحد أبنائه، وتمكين أسرته من التفرد بكل شيء: السلطة والثروة.
هذه الكارثة هي التي تقف وراء أزمات الحكم العربية الراهنة، وهي التي فجّرت الثورات في الأقطار العربية الواحد تلو الآخر، لم يخرج الشعب في تونس ولا في مصر ليطالب بسقوط النظام في أول الأمر، كانت الدعوة إلى إقالة أحد الوزراء، وبالذات وزير الداخلية، كما هو الحال في مصر، ومحاكمة الذين يعتدون على الشعب، والقيام بالاصلاح المطلوب، ولكن غرور الحاكم، وبطانة السوء من المشاركين والمتورطين في ثلاثية الطغيان الكبرى: طغيان الاستبداد والقهر، وطغيان الفساد، وطغيان التزوير والتزييف للوعي والثقافة والإعلام لم يقبلوا بالتجاوب مع مطالب الشعب التي كانت متواضعة جداً وممكنة وضرورية، وصوروا أن أي تنازل، أياً كان نوعه أو مستواه، سوف يفتح شهية الشعب على المزيد، وأن الشعب إذا تذوق حلاوة الإنجاز والنصر لن يتوقف عند حدود، وسوف يطمح إلى المزيد الذي قد يطال ما يتفرد به الحاكم وحاشيته، بل وعصابته من سلطة وجاه وسلطان ونفوذ وثروة.
أخذتهم العزة بالإثم، استكبروا على شعوبهم، ودفعهم الشعور بالعظمة والتفرد إلى احتقار الشعب ومطالبه، فكانت الثورة لحظة سقوط الشهداء، وكانت هذه لحظة الصفر التي خرج بها الشعب بالملايين إلى الشوارع ليعلن ويعلي من شأنه شعوره الرائع “الشعب يريد إسقاط النظام”.
وسقط من سقط ورحل من رحل، لكن الكثيرين لم يتعلموا الدرس، بل على العكس، فهموا الدرس على عكس معناه، رفضوا الرحيل، وأعلنوا الحرب ضد الشعب.