د / علي محمد فخرو
عبر قرنين من الزمن تنقَلت الأمة العربية من مشروع إنقاذي إلى مشروع إنقاذي آخر، دون أن توصل أيّ مشروع إلى نهايته وتحقق أهدافه. كلُ مشروع ترك معلقاً في الوسط إمّا بسبب تعثُر تحقيقه لأسباب موضوعية أو بسبب بروز تحدٍ جديد يتطلب تأجيل المشروع القديم لصالح مشروع جديد يتعامل مع ويواجه التحدّي الجديد.
لقد عاشت الأمة في هذه الدوامة التي استهلكت طاقاتها المادية والمعنوية وأدخلتها في الحيرة والقنوط. وكانت البداية طرحاً جزئياً لمشروع الإصلاح الديني الإسلامي للخروج من الجمود الفقهي والفكري والثقافي الذي تراكم وتعاظم بعد سقوط الخلافة العباسية. تبع ذلك مشروع الأخذ بالليبرالية الأوروبية بعد ازدياد الاحتكاك بأوروبا والانبهار بحضارتها.
لكن خيانة أوروبا لمبادئ أنوارها وممارستها للتوسع الاستعماري واحتلال جزء كبير من أرض العرب طرح مشروعاً جديداً مستعجلاً، مشروع الاستقلال الوطني. وما أن انزاح الاستعمار حتى وجدت الأمة نفسها أمام تحدّي الهجمة الصهيونية الاستيطانية من جهة، وفشل الرجعية العربية في مواجهة الصهيونية وفي الحكم من جهة أخرى، ما نقلها إلى طرح مشروع الانقلابات العسكرية كطريق ثوري إنقاذي يواجه الصهيونية ويواجه الرجعية العربية الفاسدة في آن واحد.
ومن خلال نجاح الانقلابات العسكرية في العديد من الأقطار العربية المفصلية طرح المشروع القومي الوحدوي الرامي لتوحد الأمة العربية وصيانة استقلالها ودحر الصهيونية وإقامة مجتمع العدالة الاجتماعية. لكن هذا المشروع واجه العقبات والعثرات بسبب مؤامرات الخارج وأخطاء الداخل لتنتقل الأمة إلى مشروع الاعتماد على الإسلام السياسي لإنقاذ الأمة. حتى إذا ما جاءت رياح الربيع العربي بثوراته وحركاته وآماله الكبيرة، امتحٍن الإسلام السياسي في عدة أقطار وفشل بصورة عامة، مع استثناءات محدودة، في ذلك الامتحان.
الآن تواجه الأمة تحدياً جديداً يتمثًل في العاصفة الجهادية الإسلامية التكفيرية الممارسة للعنف البدائي البربري والمهدّدة لكل الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي بنتها الأمة العربية عبر تاريخها الطويل. ومن المؤكد أن هذا التحدّي الهائل غير المسبوق في تاريخ الأمة سيحتاج إلى طرح مشروع يواجه هذا التحدي ويدحره.
مكوّنات هذا المشروع ومنهجيته والقوى التي ستقوم به تحتاج أن لا تعيد ارتكاب أخطاء الماضي ولا تعاني من نقاط ضعفه. فلا محل للمشاريع الجزئية المبتورة، ولا للمشاريع المؤقتة، ولا للمشاريع غير المنبثقة من تاريخ وتراث وأحلام وحاجات وأولويات وتجارب الأمة، ولا للمشاريع الفوقية المعزولة عن صخب وحناجر الجماهير. ولعلّ أقرب تصور فكري منهجي لمثل هكذا مشروع مطلوب هو المشروع النهضوي العربي بنقاطه الست المترابطة: الوحدة العربية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية الإنسانية الشاملة، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، والتجدد الحضاري.
النًقاط الست العامة تلك غير كافية إن لم يصاحبها دخول عميق في التفاصيل لإبراز معانيها وواقعيتها وكفاءتها. وقبل ذلك هناك حاجة لمراجعة تحليلية نقدية لمحاولات كثيرة قام بها مئات المفكرين العرب والمسلمين، محاولات بالغة الغنى، بالغة الجرأة، بل وبعضها بالغ الحداثة. لكنها في غالبيتها الساحقة كانت محاولات فردية معزولة عن عموم المواطنين وعن حياتهم اليومية. وهي محاولات تجاهلتها المؤسسات الرسمية والكثير من المؤسسات المدنية فماتت في الواقع العربي.
المطلوب هو إدماج الكثير من تلك المحاولات المبهرة لجعل المشروع النهضوي شاملاً وعميقاً ومرتبطاً بالواقع والمستقبل إلى أبعد الحدود. إنه جهد مؤسّسي تكاتفي كبير من أجل تجويد المشروع ونشر نتائجه والدفاع عنه، تمهيداً لمأسسته في الحياة السياسية العربية على المستويين الوطني والقومي.
لو أخذنا، كمثل، نقطة التجدد الحضاري فإن عدم الدخول في تفاصيل الإصلاح الفقهي وعقلانية قراءة النصوص الدينية، أي موضوع المدرسة الكلامية الإسلامية التي يحاول بعض المفكرين العرب والمسلمين بناءها حالياً، وربطنا ذلك بتفاصيل الحداثة التي يطرحها أيضاً المفكرون العرب والمسلمون، فإننا لن نواجه موضوع التجدد الحضاري بجديّة وفاعلية. وسندخل في تفاصيل هذا المثل في مقال الأسبوع القادم، مواجهة «داعش» وأخواتها، فكراً وفهماً وثقافة، ستحتاج إلى كل ذلك.