انتحرت أميركا على أسوار بغداد
وستنتحر إيران على أسوار البصرة
حسن خليل غريب
قال علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني الأسبق: (لولا طهران لما دخلت أميركا كابول وبغداد). وفاته أن يقول: لولا أميركا لما دخلت إيران بغداد. فلهذا يكون لكل من الطرفين فضل على الآخر. ولا يتبادل الفضل طرفان في مكان ما أو في قضية ما إلاَّ من تقاطعت مصالحهما، ولا يتعاونان على طرف ثالث إلاَّ إذا جمعهما العداء له.
ولهذا لم يكن من غريب الصدف أن تلتقي مصالح أميركا وإيران باحتلال العراق، وهو دليل أيضاً على أن شعارات النظام الإيراني باعتبار (أميركا الشيطان الأكبر) ليست أكثر من كذب وخداع، وقد أطلقه النظام الإيراني لذرِّ الرماد في العيون، وهو بالتالي (ضحك على ذقون من تساذجوا) وانطلت عليهم خُدع السياسة الإيرانية وأحابيلها.
وهذه الحقيقة تقود أيضاً إلى استنتاج لا يدحضه برهان معاكس هو أنه إذا التقى طرفان بالعداء لطرف ثالث، فهذا يعني أن تناقضاً رئيسياً يفصل بين الطرفين المعتديين والطرف المُعتدى عليه. وإذا كان يُعتبر الاستعمار، مُمثَّلاً بأميركا، تناقضاً رئيسياً لمصالح الأمة العربية تجب مكافحته ومقاومته واجتثاثه، فإن إيران أيضاً تمثل تناقضاً رئيسياً مع مصالح العروبة، فعلى العرب واجب مكافحته ومقاومته واجتثاثه.
وفي المقابل نستطرد بالقول: إنه إذا بنت أميركا في المستقبل، وكل المنظومة الاستعمارية، مع الأمة العربية علاقات على قاعدة التكافؤ بالمصالح، فيعني أنها خرجت من دائرة التناقض الرئيسي. وهذا ينطبق على إيران أيضاً.
وانطلاقاً من اعتبار أميركا وإيران شريكين في احتلال العراق، ولتصحيح العلاقة بينهما معاً وبين العراق، التي اختلت بفعل الاحتلال، فلن يتم إلاَّ بخروجهما من العراق والاعتذار وتعويض ما ألحقا به من خسائر، وما ارتكباه من جرائم على شتى الصعد.
وبغير ذلك، ولأن أميركا لم تستدرك خطأها الفادح في الوقت المناسب، فقد دفعت ثمناً باهظاً جراء عنادها، وانتحرت على أسوار بغداد، ولا تزال تدفع الثمن حتى الآن، وستدفع أكثر طالما أنها لم تعمد إلى تصحيح خطئها بالتراجع عن حماية عملائها الذين يركِّبون أرجلاً لـ(عملية سياسية) تشهد الفصل الأخير قبل تشييعها إلى مثواها الأخير. نقول هذا، آملين أن ترى إدارة أوباما الحقيقة بجرأة بينما هي تشهد اليوم تهاوي (العملية السياسية) تحت أقدام العراقيين الذين اجتمعوا بجناحيهم من جهة، وتتكامل الآن وعلى شكل فذٍّ ورائع جهود المقاومة المسلحة مع جهود المقاومة الشعبية من جهة أخرى.
وإذا كان الطرفان، الأميركي والإيراني، قد بلعا أفخاخ الخداع المتبادل بينهما، يكفيهما ذلك لكي يتأكدا من أنهما مهزومان معاً في المواجهة الدائرة في العراق، وهما يقفان وجهاً لوجه أمام الغضبة الشعبية العارمة التي تفجَّرت براكينها بقوة في شوارع العراق كلها. وما لم يتفجر منها حتى الآن فإنه يغلي على نيران لاهبة لن يطول انتظارها، لأنه ليس هناك ما يوقف اندلاعها خاصة أن كرامة العراقي الوطنية، أينما كان، تتعرِّض للإهانة والإذلال، ولقمة عيشه مغمِّسة بالذل، وكرامته الشخصية تتعرض كل يوم للانتهاك في أماكن سكنه وفي سجون أذناب الاحتلال.
ولما كانت إدارة أوباما قد أدركت أن إدارة من سبقها قد وقعت في خطأ فادح وحسابات خاطئة باحتلال العراق، وأعلنت أنها ستصحح الخطأ وستعيد العراق إلى أهله، ولكنها لسبب ما لحست إعلانها إذا كان صادقاً، إلاَّ إذا كانت تراهن على أن تستولي على العراق وتهيمن عليه بواسطة أقزام من الخونة، فتكون بتلك المراهنة قد دخلت نفق المراوغة، الأمر الذي سيضعها في المستقبل القريب، إذا لم يكن قد وضعها حتى الآن، في موقف لا تُحسد عليه.
بعد كل تلك الحقائق نتساءل: ما بال النظام الإيراني قد غطى عينيه وراح يدفن رأسه في الرمال، وهو يعرف أنه سيذوق طعم الهزيمة المرة؟
ولئن كان ما سنقوله لأركان النظام الإيراني من قبيل التكرار، ولكن التكرار قد يكون مفيداً: فإذا كان ذلك النظام يراهن على قوة مؤيديه ممن ارتكبوا (الخيانة الوطنية)، أي من الذين تواطأوا على احتلال أرض العراق، متلطين بشعار (نصرة المذهب)، فرهان ذلك النظام ليس بأقل من وهم كاذب لن يصمد طويلاً، فحقائق العصر قد أكدت أن من ينصرون المذهب الديني على الإخلاص لوطنهم أصبحوا قلة منتفعة من اعتقادها بتحقيق مكاسب غير مشروعة، كما هي قلة واهمة لا تصمد أحلامها طويلاً أمام حقائق الفكر المعاصر.
إن مؤيدي إيران كما باعوا أوطانهم، ظناً منهم أنهم سيحظون بحماية أبناء مذهبهم العراقيين، وغير العراقيين، لتحقيق مصالح مادية ومواقع سياسية، فإنهم سيبيعون إيران نفسها إذا تعرَّضت حياتهم للخطر. وأما السبب فلأن من باع نفسه لمصلحة، فلن يكون وفياً لوعوده إذا كان سيدفع لقاء المحافظة على المصلحة ثمناً أغلى منها. ولهذا، إذا كان من خانوا وطنهم قلة منتفعة، فإن الأكثرية الساحقة ترفض أن تبيع أرضها، أي شرفها الوطني، وعرضها ومالها. وإن سياق الأمور، والأسباب التي تراكمت ستدفع بهم إلى اتخاذ القرار الصحيح، حيث قال الرسول العربي، اعترافاً منه بقدسية الأرض والعرض والمال: (من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد)، فهذا يدل على أن قدسية الأرض والعرض والثروة، تسبق قدسية المذهب. وماذا ينفع المذهب إذا شكَّل غطاء لكل أنواع الجرائم والآثام؟
وهنا، لا بدَّ من التساؤل: هل إذا اعتدى أبناء مذهب ممن ينتمون إلى أقوام أخرى على أرض وعرض ومال أبناء مذهبهم من غير قومهم، أفلا تجوز مقاومتهم؟ وهل لا يجوز أن يموت شهيداً من حصل تجاوز على حقوقه المادية والاعتبارية في سبيل تحرير أرضه المعتدى عليها، وعرضه الذي لوَّثه أبناء مذهبهم، وماله الذي ينهبونه؟
ولهذا فنحن لن نرى البصرة الآن، ومعها كل محافظات الجنوب، إلاَّ بالعيون التي برهن فيها البصريون في التاريخ، أنهم لن يستكينوا إذا كانت أرضهم محتلَّة، بل يعملون على حمايتها قبل العدوان عليها، وعلى تحريرها بعد الاحتلال. نقول هذا، خاصة أنهم أثبتوا ذلك بتحرير الفاو من الاحتلال الإيراني، وفي صمودهم البطولي في معركة مواجهة طلائع العدوان الأميركي في (أم قصر) وفي النجف والناصرية وكربلاء والحلة، وو… كما نرى البصرة بعيون أبنائها الذين رفضوا بكل جوارحهم تلويث شرفهم من كل الذين تعاونوا على احتلال العراق، رفضوها سواءٌ ممن يحسب نفسه أقرب إليهم بالمذهب أم بغيره، كما رفضوها من كل غريب استهان بهم وبحسهم الوطني، وبقدرتهم على المحافظة على أعراضهم.
النظام الإيراني سينتحر على أسوار البصرة
لكل ذلك، وإذا كانت أميركا قد انتحرت على (أسوار بغداد)، فإن النظام الإيراني سينتحر على (أسوار البصرة). فالبصرة كانت، بما فيها الكوفة، تمثل في التاريخ العربي بوابة العلوم التي ما نزال حتى الآن ننهل من معينها. وهي تشكل الآن البوابة التي تحمي العراق وتحمي أقطار الوطن العربي، وبالأخص أقطار الخليج، من رياح الشرق والغرب مهما كانت درجة عُتُوِّها. ولذلك كانت البصرة والكوفة تملكان مفاتيح المعارف العربية، ولذلك ستبقى تملك مفاتيح المحافظة على عروبتها من جهة، وتحمي عروبة الأمة العربية من جهة أخرى. ولأنها كانت البوابة التي منها تمَّ تطهير الفاو من أيدي الاحتلال الإيراني، تلك المعركة التاريخية التي حسمت الحرب التي بدأتها إيران ضد العراق تحت شعار (تصدير الثورة)، فهي التي ستحسم المعركة الدائرة الآن وتزيح عن كاهلها عبء الاحتلال الإيراني وعبء كل الذين تلوثوا بأوهام (تصدير الثورة).