امريكا تبدأ حل الجيش العراقي للمرة الثانية.. وتستعجل تدريب جيش ثالث استعدادا لمعركة الموصل.. ما هي مخاطر هذه الخطوة؟ وما هي فرص نجاحها او فشلها.. ومصادر القوة ونقاط الضعف فيها؟
عبد الباري عطوان
سيشكل عام 2014 المنصرم كابوسا بالنسبة الى الاستراتيجية الامريكية في الشرق الاوسط، وربما مناطق اخرى في العالم وخاصة اوكرانيا، لان انجازاتها العسكرية والسياسية تواضعت، وحلت مكانها هزائم لا يمكن نكرانها، اجبرتها على التراجع وتقديم العديد من التنازلات، والاستثناء الوحيد في هذا الصدد ينحصر في القضية الفلسطينية، ليس بسبب عوامل القوة الامريكية وانما الضعف الفلسطيني، والقيادي منه خاصة، وهذا لا يعني مطلقا ان العام الجديد سيكون افضل حالا.
العلامة الفارقة في العام المنصرم صعود “الدولة الاسلامية” وانهيار الجيش العراقي امامها، وسيطرتها على اراض توازي مساحة فرنسا، تضم نهرين، وآبار نفط وغاز، ومخزون ضخم من الحبوب، وفوق هذا وذاك اكثر من ثمانية ملايين مواطن، واعتمادا ذاتيا في المال والسلاح، وجيش جرار تعداده مئة الف جندي، وفي تزايد.
القصف الجوي الامريكي المدعوم من ستين دولة، وبدأ قبل خمسة اشهر، لم يعط حتى الآن “ثماره” المرجوة، في اضعاف “الدولة الاسلامية” تمهيدا للقضاء عليها، لان قوات هذه الدولة بدأت “تتأقلم” مع هذا القصف، والاخطر من ذلك نجاحها في اسقاط احدى الطائرات المغيرة، اردنية الهوية، امريكية الصنع، وجرى اسر طيارها الذي قدم معلومات “قيمة” لآسريه عن الاماكن التي تنطلق منها الطائرات، والدول المشاركة فيها، وكيفية عملها، وموقع غرفة قيادة العمليات، والله اعلم بالباقي.
***
الادارة الامريكية التي غيرت اولوياتها في سورية، وباتت تتعاون مكرهة مع ايران، وتنسق معها ضد هذا “الارهاب” فشلت في اقناع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في الانضمام الفعال الى التحالف الستيني، وارسال قوات برية الى سورية لخوض حرب ضد “الدولة الاسلامية” طالما رفضت هذه الادارة التجاوب مع شروطه (اردوغان) في العمل على اسقاط النظام السوري بالتوازي مع محاربة “الدولة الاسلامية”، واقامة مناطق عازلة وحظر جوي، فتركيا تصّعب شروطها لانها تعرف انها صعبة القبول، مثل الذي يغلي مهر ابنته، لانها لا تريد الهزيمة لهذه “الدولة”، وتعتبرها ورقة ضغط استراتيجية في يدها في مواجهة منافسيها في سورية والعراق.
الرجل المريض هذه الايام هو الامة العربية وبلدانها، والكل يسّن السكاكين لاقتطاع نصيبه منها في ظل عملية التفتيت التي تسير على قدم وساق لسورية والعراق واليمن وليبيا والسودان، الامر الذي يذكرنا بالمراحل الاخيرة لانهيار الدولة العثمانية تحت ضربات القوى الاستعمارية الغربية مثل هذه الايام قبل مئة عام بالتمام والكمال.
الخوف الامريكي، المعلن على الاقل، من “الدولة لاسلامية” وباقي الفصائل الاخرى المتشددة، نابع من كونها قوة جذب للشباب العربي والمسلم، وهشاشة “الدول القطرية” في المقابل، مثلما هي قوة قابلة للتمدد، ولولا القصف الامريكي الجوي لاستولت على اربيل عاصمة الدولة الكردية المنتظرة، ودخلت الى بغداد، وسيطرت على اراضي واسعة في جنوب الحدود السعودية مع العراق، (عرعر ورفحة وتبوك وربما المدينة المنورة ايضا).
في ظل فشل الجهود والضغوط الامريكية لجر تركيا الى التورط عسكريا، وبشكل مباشر في الحرب البرية التي تشكل المرحلة الثانية في استراتيجية مكافحة “الدولة الاسلامية” هذه، وجدت الادارة الامريكية وقيادتها العسكرية نفسها مضطرة للعودة الى العراق مجددا، واستغلال نقاط ضعفه امام هذا “الزحف الاسلامي السني” المتشدد، لوضعه في مواجهة هذا “التسونامي” بريا من خلال اعادة “تأهيل” قواته العسكرية واجهزته الامنية، للقيام بهذه المهمة، واختارت رئيس وزراء مستعد للتعاون معها في هذا المخطط دون اي تردد.
تطبيقا لهذا المخطط، بدأ اكثر من خمسة آلاف جندي امريكي يتواجدون على ارض العراق حاليا، ويتمتعون بالحصانة الكاملة، في عملية تدريب خمسة آلاف جندي عراقي كل ستة اسابيع لاكسابهم “المهارات الدنيا” لاستعادة المناطق التي سيطر عليها تنظيم “الدولة الاسلامية”، وعدد هذه القوات الامريكية سيتزايد ويتضاعف حتما في العام الجديد.
مذا يعني هذا المخطط وما هي فرصه في النجاح؟
من المؤكد ان الادارة الامريكية، وبعد ان اكتشفت حجم الفساد في المؤسسة العسكرية العراقية التي دربتها وسلحتها (جرى الاعلان عن جنود “هوائيين” او بالاحرى “وهميين” يقبضون رواتبهم وهم في منازلهم)، وحصلت على 25 مليار دولار في المقابل، قررت حل الجيش العراقي للمرة الثانية بطريقة غير مباشرة، واستبداله بقوات جديدة تتولى مهمة محاربة “الدولة الاسلامية” واستعادة مدينة “الموصل”، واقليم الانبار ومناطق اخرى سيطرت عليها الدولة، وشكلت سيطرتها اهانة لحكومة بغداد المركزية والاحتلال الامريكي الذي رعاها وثبتها.
فرص هذا المخطط الامريكي الجديد في النجاح تبدو محدودة، لسبب بسيط لان امريكا تقع في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه في العراق ومناطق اخرى، اي الاعتماد على الحلول العسكرية للازمة بمعزل عن الحلول السياسية وسياسات الاقصاء والتقسيم العرقي والطائفي التي مارستها طوال عشر سنوات من احتلالها للعراق.
امريكا تنظر الى المنطقة العربية بنظرة اجتزائية تتعامل من خلالها مع كل دولة او منطقة على حدى، الامر الذي يؤدي الى نتائج توفر الحاضنة الشعبية لـ”الدولة الاسلامية” في العراق وسورية وغيرهما، والجماعات الاسلامية الاخرى المتشددة.
القيادة العسكرية الامريكية التي قسمت العراق طائفيا تريد الآن تقسيمه عسكريا على الارضية الطائفية نفسها، فهي تدرب جيشا شيعيا رسميا، وتعمل في الوقت نفسه على تدريب وتأسيس جيش سني مواز تحت اسم الحرس الوطني، او جيش العشائر العراقية او بالاحرى “صحوات” بأسماء جديدة، ومن غير المستبعد ان يصطدم الجيشان سواء قبل او بعد انجاز مهمتهما في القضاء على “الدولة” هذا اذا انجزاها فعلا.
***
انها صيغة فريدة من نوعها لم تحدث وتكرر في اي منطقة اخرى من العالم غير المنطقة العربية، وبهدف خدمة مصالح الهيمنة الامريكية والغربية، وليس من اجل مصالح السكان الذين سيكونون حتما وقودا لحرب مقبلة ضحاياها بعشرات او مئات الآلاف، تماما مثلما حدث بعد الاحتلال العراقي في اذار (مارس) عام 2003.
هذا الاستعجال الامريكي في اعمال التدريب للجيش العراقي “الجديد” يؤكد امرا واحدا وهو ان معركة الموصل باتت وشيكة، بل وشيكة جدا، وعلينا ان نتوقع خسائر بشرية ضخمة، ودمار كامل للمدينة ايا كان المنتصر فيها اذا كان هناك اي منتصر.
المعركة في عين العرب “كوباني” التي لا يزيد عدد سكانها عن 30 الفا، وتدافع عنها قوات البشمرغة المدربة والمسلحة امريكيا، وقوات الجيش السوري الحر المسلحة والمدربة امريكيا ايضا، ووحدات الدفاع الكردي المدربة والمسلحة امريكيا ايضا وايضا، هذه المعركة توشك على دخول شهرها الرابع رغم القصف الجوي الامريكي المتواصل، ترى كم ستستغرق معركة “الموصل” من ايام او اسابيع او اشهر او سنين، التي تشكل غابة اسمنت ويقطنها ثلاثة ملايين انسان؟
نكتفي بطرح السؤال ونترك الاجابة للايام والاسابيع والسنوات المقبلة تماما مثلما فعلنا مع بدء الغزو الامريكي للعراق قبل 11 عاما ونيف.