د. علي محمد فخرو
ظاهرة التعامل مع الأعداد والإحصائيات في المشهد النضالي العربي الحالي تستحق التمعُّن فيها، وككل الإحصائيات فإنها تظهر أشياء وتخفي أشياء أخر. دعنا نمعن النظر في بعض من وجوه تلك الظاهرة.
أولاَ- هناك قول ينسب لرئيس الإتحاد السوفييتي السابق جوزيف ستالين بأن ”وفاة واحدة هي مأساة، أما مليون وفاة فإنها مجرًّد إحصاء“. يظهر أن الكثير من المسؤولين الكبار في الأقطار العربية التي وصلها الربيع العربي هم من أتباع تلك الحكمة الستالينية. ففي بداية الحراكات والانتفاضات ما إن يعلن عن وفاة الشهيد الأول على أيدي قوًّات الأمن حتى يظهر كبار القادة على شاشات التلفزيون ليعبٍّروا عن اعتذارهم وشديد أسفهم لوقوع مأساة الوفاة الفردية ويقدٍّموا أحرَّ التعازي لعائلة الفقيد ولعموم الشًّعب هكذا تكون الوفاة الأولى مأساة تستوجب الشَّجب والوعد بأجراء التحقيق والمساءلة والقصاص من الجاني.
لكن ما إن تمر الأيام وتتًّسع الانتفاضات وتزداد حدًّة الإصطدامات بين قوى الأمن والغاضبين من أبناء الشعب المتظاهرين في شوارع المدن والقرى حتى يزداد عدد الوفيًّات وتصبح الوفيات كما أكد ستالين مجًّرد إحصائيات. عند ذاك، وبصورة ملفتة للنظر، يتوقف المسؤولون عن الظهور على الشاشات لتقديم الاعتذار أو التعبير عن الأسى وتصبح ظاهرة موت العشرات حدثاً مألوفاً في مشهد كبير بالغ التعقيد والأبعاد وبالتالي لا تستحق ذرف دمعة أخرى.
ثانياَ- والغريب أن ذلك الموت المفاجئ لضمير وحساسية مشاعر الكثيرين من السًّاسة الكبار يصيب الآخرين بعدواه، وعلى رأسهم غالبية وسائل الإعلام.
فخبر الوفاة الأولى يفصل كل جوانبها حتى يثير مشاعر الحزن والأسى على الضحية في النفس الإنسانية وحتى يحرٍّك الغضب والسَّخط على الجلادين في ضمير المشاهد أو المجتمع الإنساني. أما أخبار عشرات ومئات الوفيات التي تحدث بعد ذلك فتٌجمل سريعا وبنبرة روتينية حيادية باردة في تعبيرات إحصائية لا تثير النفس ولا تحرٍّك الضمير ولكنها تذكًّرنا بوصف الكاتب الاسكتلندي أندرو لا نج لأحدهم بأنه ”يستعمل الإحصائيات كما يستعمل الرجل السكران أعمدة النور في الشوارع: للوقوف على قدميه وليس لإنارة طريقه“.
فجأة يصبح موت العشرات وجرح المئات وسجن الألوف مشهداً إحصائياً يومياً عابراً، بل ومملاً. هنا يتوقف الحديث عن الأفراد ليبدأ الحديث عن الأعداد والنٍّسب والمعدًّلات والإحصائيات وكل أشكال الكلمات الحيادية الباهتة الشَّاردة التي لا تبقى في الذًّهن أكثر من بضع سويعات أو بضع دقائق، ثم تنسى.
ثالثاَ- هذا التعامل الإحصائي لشهداء وضحايا ومنكوبي الثورات والحراكات العربية ولعائلاتهم المكلومة لا يتناغم فقط مع الصورة الشيطانية البشعة التي رسمها ستالين في مقولته القاسية وإنما يساهم أيضاً في وضع أقنعة وأردية تحجب عن الشعوب العربية وهج ونور وتألُّق الحراك العربي الذي عًّم الوطن العربي بشتَّى صوره وظلاله. وهو ظلم لمن قدَّموا حياتهم فداء لشعوبهم وأوطانهم الصغيرة ووطنهم العربي الكبير، ولمن صبروا على التعذيب والسُّجون، ولمن خسروا مصادر أرزاقهم وأقوات عائلاتهم. لكن العدل يقتضي العكس، إذ المطلوب هو أن ترسخ تلك الصور بتفاصيلها ورمزيتها ودروسها ومآسي بطولاتها في وجدان وذاكرة أجيال المستقبل. قصص هؤلاء يجب أن تصبح حكايات تسرد، توثيقات تدرس، صوراً تشاهد، أناشيد وأغان تصدح في الأمكنة والأزمنة، دموعاً تسكب لمن عُذٍّب أو اغتصب أو أهين وظلم وروٍّع.
رابعاً- ما أكثر ما نقرأ أو نسمع من كتابات وأحاديث التحليلات والتفلسف لظاهرة الربيع الذى تعيشه الأمة، لكن كل ذلك سيبقى أقوالاً وسفسطة باهتة إن لم يكن مواكباً للحديث عن الفعل البطولي المبهر الذي يحفر في الواقع ويغيٍّره، الفعل الذي يقوم به شباب هذه الأمة عبر الأرض العربية كلها، باسم الأمة كلًّها. هؤلاء الشباب وأسرهم المساندة لهم، المحروقة القلوب، الصابرة.. هؤلاء – يجب أن نتعامل معهم بالروح التي عبًّر عنها الفيلسوف الانكليزي هربرت سبنسر في قوله بأنَّ ”عبادة الأبطال تكون الأقوى حيث توجد أقلٍّ الاعتبارات لحريًّة الإنسان“ وبالطبع فعبر قرون وقرون من تاريخ هذه الأمة تعامل الطًّغاة المستبدون مع الحرية الإنسانية بأبشع وأرذل صور الازدراء والانتهاك.
نعم، قادة السياسة والإعلام والفكر والفنون وغيرهم يجب أن يغرفوا لسنين طويلة من نهر بطولات الربيع العربي. إذ أن الأمة التي لا تمتلئ ذاكرتها بصور البطولات المبهرة تصبح ذاكرتها كذاكرة الخراف التي تساق، طابوراً بعد طابور، إلى المسالخ.