هاني الفردان
«تحت الطاولة» مصطلح سياسي، وعادةً ما تتردد هذه العبارات «المخادعة» في لغة الساسة والسياسيين، التي تعتمد المفردات المجازية، والتي يكون ظاهرها مختلفاً اختلافاً كلياً عن باطنها، والعكس صحيح.
الاستعارة السياسية للمفردات الأدبية تأتي ضمن إطار الفهم السياسي الذي يقوم على أساس أن السياسة «فن الممكن»، ولذلك فإن المحنكين من السياسيين الحقيقيين وصناعها يلجأون إلى الأدب في لغتهم السياسية والدبلوماسية الحذرة والدقيقة والمتأنية في اختيار عباراتهم وكلماتهم التي تحميهم من «هفوات اللسان وزلاته»، وتقيهم من «الخطأ السياسي والدبلوماسي»، وهم الذين يعون بصدق معنى «تحت الطاولة» في عالم السياسة.
يبدو واضحاً للمتتبع لحديث وزير العدل والشئون الإسلامية والأوقاف الشيخ خالد بن علي آل خليفة ممثل الحكومة على طاولة الحوار انزعاجه الشديد من طرحنا السابق من أن الحل للأزمة السياسية والأمنية الخانقة التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عامين سيأتي من «تحت الطاولة». فقد أكّد في مقابلة مع قناة «سي إن إن» على أن «أهم إنجاز للحوار لحد الآن هو جلوس جميع الأطراف على طاولة واحدة»، وهو الأمر الذي انتقدناه بشدة، خصوصاً أننا أكملنا 90 يوماً من انطلاق جلسات الحوار، دون أية نتيجة سوى الجلوس فوق الطاولة، حتى ذهب الوزير يوم الأربعاء الماضي لـ «يزيد الطين بلة» ويصف ما يجري «فوق الطاولة بـ«المهزلة»، متهماً أطرافاً بـ «تعطيل» جلسات الحوار. فكيف سيأتي الحل، معالي الوزير، من فوق طاولةٍ تصف ما يجري عليها بـ «المهزلة»؟
منذ فترة ووزير العدل يهاجم وينتقد طرح «الحل من تحت الطاولة»، ويؤكد أن من يتحدث في ذلك ما له إلا ما هو موجود تحت تلك الطاولة (الأحذية والنعل)، وكما قالها مسبقاً عبر تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، وكرّرها أيضاً.
لا أعلم هل من الواضح معنى مصطلح «تحت الطاولة» سياسياً أما لا، ولا أعلم هل ما تحت الطاولة فقط «أحذية ونعل» كما قال، أم ربما هناك عقول سياسية محنكة تعمل من «تحت الطاولة» وتدير اللعبة من «خلف الكواليس»، وهو ما نفتقده في طاولة الحوار الحالية.
المصيبة هي عندما يقف الفهم السياسي لمصطلح «تحت الطاولة» عند حدّ «الأحذية والنعل»، بينما يفترض أن تكون طاولة الحوار السياسية الطريق لإنقاذ البلاد والعباد مما هم فيه.
المصيبة الأخرى أن لا يفقه متحاورون ومسئولون مفردات «الطاولة السياسية» التي يجلسون عليها، ولا يفرقون سياسياً، بين ما هو تحتها وفوقها، أو حتى على صعيد شكلها ومضمونها، فقد يتخيّل لبعضهم أن مصطلح «الطاولة المستديرة» مثلاً هو الجلوس على طاولة دائرية! فقط، دون النظر إلى أن القصد منها سياسياً هو للتعبير عن التساوي بين المجتمعين، مع ملاحظة أن طاولة الحوار في منتجع العرين لم تأخذ شكلاً دائرياً وإنما أخذت شكلاً متعدداً للزوايا، وبمفهوم الوزير وأحكامه الظاهرية، فإن هذا الشكل لا يمكن أن يقال عنه «طاولة مستديرة»، ومن ثم فإن الأطراف في الحوار ومن خلال شكل الطاولة هم غير متساوين، أما في مركز عيسى الثقافي فحدّث ولا حرج، فقد تحوّلت الطاولة متعددة الزوايا لـ 30 طاولة!
في عالم السياسة مفهوم «الطاولة المستديرة» أو «المائدة المستديرة» ترمزان عادةً إلى الندية والمساواة، وهو نوع من أنواع الاستعارة السياسية التي يصعب على البعض فهمها، وفهم مقاصدها. والاستعارة السياسية لا تقف عند حدّ الطاولات والأحذية والنعل، فهناك مفاهيم سياسية كثيرة منها على سبيل المثال سياسة «العصا والجزرة»، وهذه السياسة لا تقوم على توزيع العصي والجزر على السياسيين أبداً، بل على فهم سياسة «الثواب والعقاب»، وهو مصطلح مهين لمن يستخدم معه سياسياً.
في عالم السياسة وفن الممكن، معالي الوزير، سنجد الكثير من المفردات والمصطلحات الأدبية والنثرية التي يكثر الساسة من استخدامها لدهائهم، ومعرفتهم بقيمة الكلمة، وتأثيرها، وما قد تترتب عليها من نتائج لا يمكن إغفالها.
لغة السياسي عادةً ما تكون أكثر أناقة ولباقة من لغة المثقف، فالمثقف يرى تحت الطاولة أرضيةً ناعمةً بسيطةً تستحق التأمل فيها، والسياسي يجد تحتها حلولاً، ومخارج لأزمات عاصفة، وآخرون لا يرون إلا نعلاً وأحذية.