الدكتور خضير المرشدي
جملة من الحقائق تعبر عن حتمية العلاقة العضوية بين الوحدة على أي مستوى كانت، وممارسة الديمقراطية ضمن إطار هذه الوحدة، بحيث تكون هذه الممارسة ضامنا حقيقيا لاستمرار الوحدة ويزيد في تماسكها لانها خيار الشعب والإنسان.
– الحقيقة الاولى : هي أن الوحدة وليدة النصر، وهكذا هو تاريخ الامة عبر كل المراحل، حيث ان انتصار رسالة الإسلام الخالدة، كان ايذانا بوحدة القبائل العربية في دولة العروبة والاسلام، بعد ان كانت متفرقة متناحرة متقاتلة، وفي التاريخ الحديث ولدت وحدة سورية ومصر عام 1958 وكانت ثمرة لانتصار مصر والعرب قبل ذلك بعامين في معركة تأميم قناة السويس، وفي صد العدوان الثلاثي عام 1956.. وانتصار سوريا في القضاء على دكتاتورية أديب الشيشكلي قبل ذلك بأربعة سنوات.
إن الأصل والأساس في العمل من اجل تحقيق الوحدة سواءا على مستوى القطر او مستوى الامة، او اي منظمة، هو العمل بين صفوف الناس، وبين شرائح الشعب، هذا هو المبدأ، وهذا هو القانون الذي ثبت برهانه بالتطبيق العملي، اي ان تحقيق الوحدة، مرهون بارادة الشعب وقراره، بمعنى اخر، من خلال ممارسة الديمقراطية عبر مؤسساتها الشعبية ووفق الاليات المعروفة، وبذلك فإن الضمانة الأكيدة لاستمرار الوحدة ونموها هي تكون بارادة الشعب، وهذا بطبيعة الحال لا يتعارض مع أية خطوات وحدوية على الصعيد الرسمي، بل على العكس فانه يقويه ويعززه، إذا ماتوفرت له بعض الظروف والامكانات الايجابية التي تجعل الوحدة قادرة على تفهم تطلعات الشعب ورغباته وحاجاته، على اساس قاعدة اعتبار الديمقراطية عملية إنقاذ للأمة والوطن والشعب كما هي الوحدة، وكما هي العدالة بمعناها الواسع.
فالديمقراطية من كونها ثقافة وفكر وممارسة وسلوك وقيمة، اضافة الى انها نظام حياتي متكامل للتعبير عن الحرية والتمتع بفضاءها الازلي، هي الحقيقة الأولى التي يجب ان تكون حاضرة في ذهن الساسة والحكام والقادة والشعوب، ويجب ان تطرح بقوة في طريقة إدارة المجتمعات وقيادة الناس، بحيث يمارسون من خلالها حرية الاختيار والتعبير والرأي، واكتشاف الذات، والاعتزاز بالانتماء للوطن، لان الديمقراطية المقترنة بالوحدة هي العنوان الجامع الحضاري التي تتلازم فيه الأبعاد الفكرية والروحية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقيمية لأي شعب، وأية امة، لانها حاجة إنقاذ وتصحيح للمفاهيم والقيم والممارسة الوطنية، وفي ذات الوقت تعزيز للوحدة من خلال ما تزرعه من حرية الاختيار، لان الوحدة التي تتم بارادة شعبية هي بالتاكيد اكثر رسوخا وصلابة وخلود من تلك الوحدة السطحية الفوقية الايلة للتفكك والسقوط، كما يجري الان في غير قطر عربي من اقطار امتنا.
من هنا فان الديمقراطية الحقيقية هي حاجة انسانية عصرية وقيمة نبيلة لانها تحقق انسانية الانسان، يكتشف من خلالها ذاته، وتتعزز بممارستها ثقته بنفسه ونظامه، ويتعمق حبه وانتماءه لبلده، اضافة الى انها عملية حصانة للأمة والوطن أمام ما أصاب هذه الأمة، وهذا الوطن، في العقود الأخيرة من ترد وانقسام وضياع، أوصلها إلى نوع من الشلل والعجز والخيبة، واوصلها الى حافة التفكك والانهيار والتراجع، ووضع الشعب في حالة المتفرج على النكسات والهزائم لاحول له ولا قوة!! او مساهما في الانقسام والتردي والضياع كما نشاهد ونسمع من دعوة للتقسيم والانفصال وانشاء الاقاليم؟؟؟ وشجع الأعداء على التطاول والعدوان والتدخل على مختلف الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية والأخلاقية وغيرها، بحجة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان؟؟
إن الطروحات الفكرية حول الديمقراطية، على أهميتها، ومهما كانت قيمتها، تبقى مجردة إذا لم تلامس حقيقة التطبيق العملي الفعلي للديمقراطية، وممارستها، وما تمثله الديمقراطية في المرحلة المقبلة من عودة للروح التي غابت عن الانسان والأمة، عندما غيبت الانظمة الرسمية القمعية الاستبدادية هذا الإنسان، وهذه الامة.
والحقيقة الثانية : هي ان التمسك بالوحدة الوطنية او القضية القومية بمجملها، لايمكن لحركة واحدة او لتيار واحد، أو لحزب واحد، أن يفي بحاجاتها متطلباتها او يحقق تماسكها او يلبي طموحاتها ورغباتها، وينهض بها، بل هي بحاجة إلى جهود جميع القوى الوطنية والقومية والاسلامية، والى آراء ووجهات نظر مختلفة تتكامل ويصحح بعضها بعضا، وتلتئم في جبهة كبيرة من اجل تلبية تلك الحاجات، والحفاظ على تلك الوحدة، ومن هنا تأتي أهمية قيام جبهة وطنية وقومية وإسلامية عريضة على المستوى الوطني في كل قطر، ومن ثم على المستوى القومي، تضم قادة الفكر، ورجال السياسة، ورواد الثقافة والعلم، ورموز الامة وأحزابها وحركاتها وقواها الحية.
والحقيقة الثالثة : أن الديمقراطية عندما تصبح ثقافة وممارسة وسلوك وقيم ونظام في الحياة العربية، ستكون حتما مصدرا من مصادر الشرعية الجديدة، اذا لم تكن الشرعية الوحيدة للنظام اوالحاكم او القائد او المنظمة او المؤسسة، والتي سوف تحصنه من التشكيك والطعن، وتصونه من الاستهداف الداخلي والخارجي وتمنعه من الانهيار والسقوط، لانها اي الديمقراطية متأتية من حصيلة الحوار والتفاعل والاختبار العملي، والرأي والرأي المضاد، والقبول بالاخر، وبذلك فهي تعبير عن التجاوب مع اماني الناس، ولهذا تحقق الشرعية التي لاتنازع. انطلاقا من ان الديمقراطية الحقيقية، هي ضمانة وحدة الشعب والوطن والامة. كما أنها ضمانة أكيدة لوحدة الحزب او الحركة او الجبهة او المنظمة او الاتحاد او النقابة، إذا ما تم تطبيقها وفق معاييرها وأخلاقياتها المعروفة.. لتكون نظام حياة.. لا ضرورة سلطة وتسلط او طريقا للهيمنة والاستبداد، كما يحصل الان في بعض الاقطار ومنها العراق من تدمير وقتل لإرادة الشعب ومصادرة قراره باسم تلك الديمقراطية الغريبة العجيبة بل المهزلة التي جاءت على ظهور دبابات المحتل الغازي والغاصب!!!!!
والحقيقة الرابعة هي : ان الحوار الديمقراطي المبني على قاعدة النقد البناء للاخر وللذات، والمراجعة لتجربة الماضي بحلوها ومرها، والمكاشفة الصادقة التي يسودها الحرص.. الحوار المبني على اساس التمسك بحقوق الوطن او الامة او الجماعة، والمنطلق من الإيمان بوحدة الأمة، المتحرر من الحساسيات، الذي ينبغي أن يتسع وان يتعمق بين الجميع، البعثيين والناصريين والإسلاميين واليساريين وسائر القوى الوطنية والقومية والإسلامية المتمسكة بالحقوق، هو المدخل الطبيعي لبلوغ هذا المستوى الجديد من الترابط بين الوحدة والحفاظ عليها، وممارسة الديمقراطية وتعزيزها، وتحقيق العدالة بأوسع صورها.
هذه هي الحقائق الأولية التي تطرح نفسها الان، من اجل ممارسة الديمقراطية كنظام للحياة، قبل ان تكون نظاما مجردا من اجل السلطة والجاه فقط؟؟؟؟
ومن اجل ان تكون الديمقراطية عاملا ضامنا للوحدة، كما هي الوحدة وعاءا للديمقراطية، فإن المطلوب من قيادات الاحزاب والحركات والدول او غيرها من المنظمات في هذه المرحلة الجديدة أمرين رئيسيين :
– ان يكون دور الشعب هو الحاسم في عملية تحديد هيكل العمل السياسي، واختيار نظامه الوطني، وانتخاب قيادته بما يرتقي لمستوى التحديات، بعيدا عن التزوير والتدجيل والتوظيف وشراء الدمم، وعن التخويف والترهيب والترغيب، والبدعة الجديدة في استخدام الفتاوى الدينية البعيدة كل البعد عن معنى واخلاقيات الدين، وتوظيفها لأغراض سياسية رخيصة فاسدة من اجل تزوير الحقيقة، واغتيال الإرادة؟؟؟
– تغييرالعقلية والمنطق والخطاب والنظرة إلى الناس والى المواطنين، من قبل جميع القيادات على مستوى الدول والأحزاب والحركات وغيرها، والتخلي عن منطق الابوة والوصاية والتصغير الأهوج للناس، وعن عبارات رنانة جوفاء فارغة، والذهاب بدلا من ذلك الاستخفاف بعقول ومصائر الناس، الى احترام حقوق الإنسان، وتحقيق ذاته في اطلاق حرياته العامة وتوفير متطلبات حياته على مستوى الامن والخدمات، والانسجام مع مقاييس الإنسانية في تداول السلطة وإدارة المجتمع، بحيث يكون تغييرا أساسيا مستندا إلى المنطق الحضاري الإنساني التقدمي..
إن العودة إلى الديمقراطية بعد غياب طويل في حياة العرب، عملية صعبة وتحتاج إلى جهود جميع المفكرين والقيادات الوطنية، والى حصيلة تجاربهم من أجل رعاية هذه العودة، ومن أجل أن تجتاز خطواتها الصعبة ومراحلها الضرورية.
واذا ماتحقق ذلك فانه سيكون المستوى المطلوب من النضال والمعاناة، لمواجهة الأخطار والمؤامرات على الكيان العربي، وعلى القومية العربية، والهوية والوجود العربي المهدد برمته!! ان الوحدة على اي مستوى، وطنيا كان ام قوميا، والتي طريقها يمر عبر الديمقراطية، فإنها تشكل ثورة اقتحامية للمرحلة الجديدة، بل وعنوانها والاصيل، لأن الأعداء التقليديين للوطن او الأمة : صاروا بعد هزيمتهم الكبيرة في العراق، يتجنبون العدوان المباشر، وبدئوا يحركون الجيوب الداخلية تحت شتى المسميات، من اجل تدمير الوحدة الوطنية، بعدما دمروا الوحدة القومية.
فالأخطار المحيطة بالاقطار العربية، من الجدية بحيث تستوجب تعبئة وتحشيد جهود كل رجال السياسة والفكر والثقافة والقادة المخلصين في الوطن العربي، وكل الذين يدركون هذه الأخطار من أجل مواجهتها بعمل جماعي منظم، ينصب في الدرجة الأولى على النواحي الايجابية في حركة القومية العربية، وإيصال هذه المعاني إلى الشعب العربي في كل مكان، لكي يكون من جهة على بينة من الأخطار المهددة لأمته من جهة، ومن جهة أخرى ليكون على بينة من مضمون قوميته، حيث انها كانت دوما تعيش حالة من الوحدة العضوية مع حقيقة الامة المشرقة المتمثلة بالاسلام عقيدة وقيما وحضارة واخلاق، والايمان بالتقدم والتجدد، ومقاومة دعوات التخلف والتعصب والانقسام، واعتبار معركته الأساسية في هذه المرحلة هي في محاربة الظلام والتخلف والجاسوسية والخيانة والطائفية والارهاب والتجزئة والفساد، وتصفية جيوب الردة والانقسام التي خلفها المحتل في العراق، ومنه يستطير شرها لبقية ديار العرب تدميرا وفتنة طائفية وتقسيم.
– التمسك بالوحدة الوطنية القائمة على أسس البناء الديمقراطي السليم هي سلاح بيد المقاومة والشعب من اجل الخلاص والإنقاذ.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.