السؤال الذي يطرح دائماً هو كيف تكون قومياً في فضاء قطري غير قومي؟ كيف تكون وحدويا في زمن معاد للوحدة؟ كيف تحلم بوحدة العرب والناس ذاهبون في قومنة أقطارهم وتحويلها الى دوائر مغلقة، لا بل انهم ذاهبون إلى عدمية قومية أو اندماجات جديدة في الاقليم والعالم؟
كل ذلك يتراءى أمام المرء ويحرّك خياله السياسي في الاجابة لكن الامر من أوله إلى آخره يرتبط بالارادة، ارادة التغيير والانتقال بالحلم الى الحقيقة وصياغة البرنامج الواقعي لتحقيق ذلك.. لأن الخيال يبقى خيالاً إذا لم نحركه بالارادة إلى واقع، وإذا لم نجعله مستقبلاً لهذا الواقع.
وحدة العرب حقيقة تاريخية يمكنها أن تذوب وتتلاشى على أرض الواقع إذا بقيت رغبة وأمنية في الصدور ولم تتحول إلى طريق وبرنامج وغاية وخيار، وهذا ما غفلت عنه الدراسات الوحدوية التأسيسية إذ اعتقدت أن الوحدة مشروع مكتمل وناجز وبدهي ولا ضرورة للخوض في معطياته ومساراته ومآلاته، إذ أنه يحيا ويتجدد من تلقاء ذاته ولا خلاف حوله إذا كان الجميع ينادي به ولا يقف في سبيله، وإذا كان حقيقة لا تدحض.
إن ذلك أخذ الامور إلى حيث لا نحتسب من استلاب واغتراب، إذ اصبحنا امام فكرة الوحدة مجردة بدون وحدويين، أو وحدويين بدون واقع ومجال للوحدة، وفي كلا الحالتين كانت الخسارة والضياع وهذا الذي نراه من المروق والاستشكال والاستعصاء الوحدوي.
ونحن نعرف بالخبرة والتجربة وتراكم التحليلات والتشخيصات ان فضاء الوحدة والفكر الوحدوي لم يكن دائماً مفتوحاً، وتجري الامور فيه دون عثرات وتدخلات وإعاقات لكن القوى الوحدوية لم تستطع أن تتعامل مع هذه المؤثرات أو هي استهانت بهذه المؤثرات من وحي بداهة الوحدة وصدقيتها وضرورتها التاريخية، إلى أن حوّل انبثاق العصبيات التحتية وتشنج بعض الاقليات في الوطن العربي موضوع الوحدة إلى تنازع ونزاع داخل القطر الواحد وأصبحنا نلهث وراء وحدة سياسية اجتماعية داخل الاقطار ونؤجل فكرة الوحدة القومية إذ أنها اصبحت بفعل هذه الوقائع من وحي الخيال أو سدرة المنتهى بعيدة المنال.
إن كل ذلك لا يحول بيننا وبين الدعوة إلى الوحدة إذ أنها في النهاية خيار استراتيجي للأمة العربية حتى وإن كانت راهناً متعذرة أو بعيدة المنال، وعدم القدرة على تحقيق الهدف لا يعني إلغاء الهدف او التشكيك بتحقيقه وصدقيته وقدرته على الحضور.
إن أهم ما يمكن أن نبقيه في الخيال هو الفكرة الوحدوية حتى وإن استطعنا وتعذرت في المرحلة الراهنة، فالزمن يتغير ونحن نرى أنه يتغير نحو الوحدة لا الانقسام، فالذي يجري الآن هو حديث مرير عن مسيرة الاخفاق القطرية وعن عبثية هذا الخيار، لا بل اننا نقول أنه انشأ ما يمكن ان يسمى "الدولة القطرية الفاشلة" السائرة في طريقها إلى التفكك والانحلال. وهي لحظة سياسية وقومية جوهرية لكي يتجدد الحديث عن الخيارات الكبرى المغايرة فالمشهد الذي ينتصب امامنا على مستوى الكون اصبح ينطق مرغماً او مختاراً بضرورة الاندماج والوحدة ونحن لا يمكننا أن نبقى خارج هذا الافق إذ لا بد أن يتحرك فينا السؤال الآخر المتعلق بخيارات اخرى لا بد أن نمضي إليها سواء برغبتنا وحقائق تاريخنا ام تحت ضغوط والحاحات الحياة والعصر.
انها إذن قضية حيوية ومعاصرة وضرورية، فكرة الوحدة التي ندعو اليها في المرحلة الراهنة، وهي ليست من وحي الخيال المجرد، وانما تستمد راهنيتها مما آلت اليه حالنا العربية من انهيار وتفكك ومن حقائق العصر التي اصبحت تحيط بنا وتستهجن حالنا، وخصوصاً عندما يتطلع الآخرون إلى هذه الجغرافيا والتاريخ العربي الموحي بالوحدة لا بالانقسام، وعندما يتصورون ما يمكن أن تخلقه الوحدة من معطيات.
اننا نكتشف هذه الحقائق يومياً وفي كل ازمة يعبرها وطننا العربي في شتى اقطاره، وحيث لا نجد الاندفاع السابق نحو هذا الهدف الكبير، ولذلك يتولد فينا دوماً حس السؤال والتساؤل عما يمكن فعله لإعادة الاعتبار البرنامجي والشعبي لهذا الهدف، إذ لا يكفي في المرحلة الراهنة مجرد الرغبات والامنيات، فلا بد من العمل الوحدوي الشعبي في كل اقطار العروبة حتى نستنهض حالة قومية عريضة تجدد الحديث عنها وتدرس سبل توطينها في العقل والواقع العربي بطريقة اكثر عقلانية واكثر التصاقاً بحياة المواطن العربي اليومية. والحديث عن هذه الوحدة يختلف عن العمل للوصول اليها، فالعمل يتطلب نظرة جديدة جاذبة وبرنامج عمل واضح العناصر والاهداف وحراك سياسي يطال كل شارع الامة السياسي، وبغير هذا فإن الوحدة تبقى في الخيال ومداراته وتصبح مثل غيرها من البديهيات الصامتة الموضوعة على رفوف العقل والحياة حتى تموت وتذوي من تلقاء ذاتها وداخل صمته.
ونقطة البداية في العمل من أجل الوحدة تكون في فهم اطروحة الوحدة ووعيها في هذا العالم المتغير، واستيعاب الواقع الانقسامي اللاوحدوي الراهن، لا باعتباره حالة ساكنة ودائمة وإنما باعتباره جزراً يمكن بالارادة الشعبية العربية أن يتحول إلى مدّ وإلى طوفان حتى. ان مما يساعد في تعجيل الاندغام بفكرة الوحدة في المرحلة الراهنة هو هذا الاخفاق الواسع والانحباس المستمر وانسداد الآفاق امام الخيارات القطرية والانعزالية والانفصالية، وهي لحظة ومناخ نراه مواتياً لطرح البدائل والعمل من اجلها، وحتى لا يعتقد البعض اننا ندعو الى اندماج فوري نقول اننا يمكن أن نمهد الطريق بالمصالحات والمفاتحات والمبادرات الوحدوية وبكل الوسائل وحتى تلك الموجودة في لجان الجامعة العربية والمتعلقة بالصحة والتعليم والتربية وغيرها مما يحفز أبناء الامة لرؤية امكانية الوحدة إلى مطالب شعبية مطلبية يومية يمكنه أن يفتح الآفاق المسدودة التي تمعن الأنظمة السياسية العربية بإغلاقها وإقصائها حتى لا يطل الامل والحياة المغايرة المرتبطة بوحدة الأمة.
إننا ندعو من خلال هذا المقال إلى قيام جبهات قومية وحدوية في كل الأقطار العربية تشكلها مرجعيات ورموز قومية تكون مهمتها تجميع القوى القومية الوحدوية في الوطن العربي، وخلق رأي عام عربي يطالب بالوحدة في حدودها الدنيا والعليا ويعلنها خياراً استراتيجياً إلى جانب خيار المقاومة.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.