محمود القصاب
ليس من المبالغة القول أنه في ظل ضغوط الواقع الراهن سياسياً واجتماعياً وأمنياً، يكون من الطبيعي أن يجد المواطن القلق على حاضر ومستقبل بلده نفسه محاطاً بهذا الكم الهائل من الهواجس والمخاوف، وهو يرى هذا الإصرار غير المفهوم، وغير المبرر على أخذ البلد إلى منزلقات خطيرة تضع البحرينيين في مواجهة بعضهم البعض، دون هدفٍ سوى الاستجابة لرغبات وتطلعات النافخسن في أبواق الفتنة والمنخرطين بجنونٍ في أتون صراعات طائفية وتصفية حسابات مذهبية، تدور رحاها في أرجاء المنطقة، ولا تحمل لبلدنا غير الخراب والدمار.
وليس خافياً أن مثل هذه الصراعات ليست معنية بالخلافات السلمية والحضارية، كما إنها عاجزةٌ عن إنتاج تسويات سياسية عادلة، يمكن أن تفضي إلى شراكة وطنية حقيقية تحترم حقوق الجميع. وعادةً ما تكون هذه الصراعات في حالة خصام وانفصام مع الحكمة والموضوعية والعقلانية، وفي حالة قطيعة تامة مع القيم الأخلاقية والإنسانية، ومع قيم العدل والمساواة، لذلك فإن خطابها ومفرداتها تقوم على التخوين والتكفير والانتقام دون حدود، ودون رادع، انتقاماً يشمل الماضي والحاضر ويهيئ للمستقبل.
فنحن اليوم جميعاً، وطناً وشعباً وحكماً وقوى سياسية، نجد أنفسنا أمام مستوى متدنٍ ومحبطٍ من العمل السياسي الوطني، تتراجع فيه فرص وإمكانيات الاتجاهات الوطنية، وتتضاءل معه مشاعر وأحاسيس المواطنة الإيجابية والفاعلة، لم تبلغه الحالة الوطنية السياسية من قبل عبر كل محطات التاريخ الوطني البحريني.
فلم نسمع أو نقرأ عن هذا الارتداد في المفاهيم والقيم الوطنية لصالح النزعات الطائفية المنفلتة من عقالها، ولم نر مثل هذا الاستعداد الأخلاقي عند بعض البحرينيين لقبول الظلم واختلال موازين الحق والضمير والأخلاق، كما لم نشاهد مثل هذا المستوى من الانخراط حتى العظم، وعلى كل المستويات في معمعة الفتنة المذهبية التي تشعرك وكأن بلدنا والمنطقة يعيشان حالة من الارتداد إلى الخلف قروناً عديدة.
أحد أسوأ صور وتجليات هذا الواقع المحبط سياسياً واجتماعياً والصادم إنسانياً، تلك الصورة التي تدعوه إلى الدهشة والرثاء والحزن في آن واحد، ونعني بها صورة تلك النماذج من القوى والنخب المنخرطة في تيارات سياسية وثقافية وإعلامية، وقد رأيناها كيف تستدير حول نفسها مئة وثمانين درجةً قبل أن تسقط في قاع التمحور الطائفي البغيض، ولم يحصّنها وعيٌ يفترض إنها تتمتع به، ولم تردعها قيَمٌ أو مُثُلٌ كان ينبغي أن تكون مانعةً و حاجزةً بينها وبين هذا السقوط المريع.
لقد سقطت هذه القوى والنخب في الامتحان، وكانت أول ضحايا «الفخاخ» المنصوبة بإحكام وإتقان لاستدراج بلدنا بكل أطيافه ومكوناته إلى هذا الانقسام المذهبي البشع، لإفساد الحياة الوطنية وتخريب العلاقة الأخوية فيه، وتهيئة الأجواء والسبل أمام المتلاعبين بالمشاعر الدينية والمذهبية لتوظيفها في الصراع السياسي، وبما يكفل تصعيد الأحقاد والكراهية إلى حدودٍ غير مسبوقة.
ليس المهم هنا كيف ولماذا حصل هذا السقوط؟ وسواءً تم بدافع «الترغيب» أو «الترهيب»، أي حصل طوعاً أو كرهاً، فالأمر سيّان، لأن هذا وذاك هما في نهاية المطاف عاملان محرضان على الخوف والهلع، ودافعان للنكوص والارتداد، وقبل ذلك وبعده هما محفّزان على الهروب من التفاعل مع أية استحقاقاتٍ وطنيةٍ أو التجاوب مع أية التزامات أخلاقية أو إنسانية، خوفاً على الذات وطمعاً في بعض المكاسب والمصالح الأنانية، في الوقت الذي كان يجب أن تكون هذه القوى والنخب هي الرافعة نحو التغيير السياسي والإصلاح الديمقراطي، وأن تكون هي القاطرة التي تقود الوطن والمجتمع باتجاه تكريس قيم العدالة والمساواة الحقيقية، والدفاع عن حرية الرأي والتعبير. بل إن العقل والمنطق والمصلحة الوطنية، تؤكّد بأن هذه النخب مع غيرها من القوى المجتمعية والسياسية والفكرية، كان يجب أن تكون هي من يتصدّى ويتقدم الركب لإعادة صياغة وبناء الدولة الوطنية الحاضنة للجميع، بصورة سلمية وحضارية، بعيداً عن أي شكل من أشكال العنف، وهي الدولة التي نريد ترسيخها في واقعنا السياسي والاجتماعي، عوضاً أو بديلاً عن الدولة المثقلة بالأمراض والانحرافات السياسية والاجتماعية، والمتكئة على إرث طويل من التسلط والاستبداد والتمييز والإقصاء، واحتكار مفاصل الدولة. وهذه كما نعلم هي آفاتٌ دفع وطننا ولايزال بسببها الكثير من الأثمان، وهي مفاهيم متخلفة تعمل ضد مفهوم الدولة الوطنية الجامعة والعادلة. كما إنها تمثل خروجاً على مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، بل إنها معول هدمٍ لكل منظومة القيم الوطنية ورمزية دولة المواطنة، إذ لا يمكن تصوّر بقاء روحٍ وطنيةٍ عند أناس يرون بأم أعينهم حجم التمييز والحرمان الواقع عليهم، ويلمسون كيف تتحوّل دولتهم من سلطة مسئولة عن رعايتهم وحمايتهم إلى أداة للبطش بهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم السياسية والاجتماعية والإنسانية.
لكل هذه الأسباب نجد أنفسنا اليوم وبعد ما يزيد عن أربعة عقود من الاستقلال، أمام حقيقةٍ صارخةٍ وجارحةٍ، وهي العودة إلى إشكالية مفهوم ودور الدولة الوطنية، ومدى قدرتها على تحقيق الوحدة والاندماج الوطني، وعلاقة الشرعية التي يجب أن تتمتع بها بالقوة السافرة التي تواجه بها المجتمع، وهي الإشكالية التي تمثل إحدى إفرازات البيئة المضطربة سياسياً واجتماعياً، وأحد أسباب الأزمة الراهنة وتداعياتها السلبية.
ومن المؤسف القول، أن العمق الهائل الذي بلغته الأزمة تقع المسئولية في بعض جوانبها على الدور السلبي الذي لعبته ولازالت تلعبه تلك القوى والنخب السياسية والإعلامية، التي أضاعت بوصلة الحقيقة، وأضاعت معها طريق الحق والعدل والصواب، يوم قبلت أن تكون البوصلة الأمنية والمذهبية، بالإضافة إلى التعليمات والأوامر السياسية التي تتلقاها، هي المحدّدة لتوجهاتها والراسمة لمواقفها، ويوم ساهمت بوعي أو بدونه في افتعال معارك وهميةٍ لا غرض لها سوى التعبئة والحشد الطائفي، وشحن المجتمع بالعداوات السياسية والاجتماعية، التي باتت اليوم تشكّل خطراً حقيقياً على وحدتنا الوطنية.
وكما هو معروف فإن الحروب الأهلية تبدأ عادةً بنصب متارسها داخل النفوس والعقول، قبل أن تنقلها إلى الشوارع، وهي المهمة التي تتكفل بها للأسف في الوقت الراهن بعض أجهزة الإعلام من صحافة وقنوات فضائية وغيرها، التي ترفض مسايرة حقائق العصر، وتقف بعنادٍ منقطع النظير في وجه التغيير والإصلاح، وهذا ما نلمسه بوضوحٍ من خلال الكثير من الكتابات والمواقف التي تتعاطى بها تلك الأجهزة مع الحراك الشعبي السلمي، ومع المعارضة السياسية الوطنية، والتي تتجاوز حدود النقد الموضوعي إلى التطاول والابتذال والتجريح الشخصي والتعدّي على الخصوصيات، والتي غالباً ما تتم بصورةٍ مشوّهةٍ وعدائية، وتتسم بأسلوب دعائي فج يفتقر إلى أبسط الضوابط المهنية، والمعايير الأخلاقية. بل إن بعض تلك الكتابات وما تبثه الفضائيات أحياناً من «إساءات» و»افتراءات»، بالإضافة إلى ما تتصف به من ضحالةٍ فكريةٍ وخواءٍ ثقافي، فإن دورها يقتصر على إعادة إنتاج الكراهية والتعصب المذهبي، من خلال تبرير الظلم والقمع، وتسويغ انتهاكات حقوق الإنسان التي تستهدف المواطنين لدوافع سياسيةٍ وطائفيةٍ بحتة، وإصرارها على التعامل مع مجمل التطورات والأحداث بذات النَفَس الطائفي البغيض.
لذلك فإن المرء الذي يقف مدهوشاً أمام الحروب الطائفية المسعورة التي تجتاح المنطقة، يُصاب بالحيرة والألم، إذ كيف لمؤسساتٍ إعلاميةٍ وصحافيةٍ وطنيةٍ تسمح لنفسها بأن تكون «مكبّاً» لمثل هذه النفايات السامة عبر الانسياق وراء هذا السعار الطائفي؟ وتقبل بأن تكون مجرد أداةٍ لتمزيق النسيج الوطني، وتغذية تناحر المجتمع والمساهمة بالتالي في انكشاف الوطن أمنياً وسياسياً، وهو ما يعني فتح آفاقٍ واسعةٍ أمام حرب أهلية (لا قدّر الله) سوف تقوم حتماً باستدعاء القوى الخارجية المتربّصة والتي تتحيّن الفرص… وهي مؤكد لن تفوت مثل هذه الفرصة الثمينة.