د. حسن طوالبه
يمكن القول أن تجارب الحكم في الاقطار العربية , قد جسدت معظم التيارات الفكرية المعروفة.وقد فشلت أو أفشلت في ترجمة أفكار تلك التيارات على أرض الواقع.فلا التيار الاشتراكي تمكن من تطبيق الاشتراكية , ولا التيار القومي تمكن من تطبيق الوحدة , ولا التيار الليبرالي تمكن من تطبيق الحرية والديمقراطية.
لقد واجهت الرأسمالية الاشتراكية ,وتجسدت تلك المواجهة في الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة , وانتهت المواجهة بانهيار الاتحاد السوفيتي , وزوال المنظومة الشيوعية , ولكن ما حصل لم يلغي الاشتراكية , أو يثبت أن البشرية لم تعد بحاجة الى الاشتراكية , أو العدالة.ولا سيما بعد الكوارث التي حصلت في الدول الرأسمالية , وبالذات في الولايات المتحدة , التي كانت تعد أقوى اقتصادات العالم. وقد عادت الادارة الامريكية الى فرض سيطرة الدولة على المؤسسات الاقتصادية , في محاولة منها للحد من انفلات الشركات والقطاع الخاص , ومن الانهيار الاقتصادي الذي سببته المضاربات في البورصة.
ويمكن القول أن الرأسمالية ليست هي الحل لمشكلات الناس , نظرا لجشع الرأسماليين وتكالبهم على جمع الثروة على حساب غالبية أبناء المجتمع.ولا نغاير الحقيقة عندما نقول أن الثورات الاشتراكية التي حدثت في العالم من بداية القرن العشرين , لم تحقق القفزة النوعية التي كان مأمولا منها أن تحققها , لقد حققت تقدما اجتماعيا لبلاد وشعوب كانت تعاني مشكلات اقتصادية واجتماعية بنسب مختلفة من التخلف , ولكنها لم تحقق التغيير النوعي في الانسان , فلم يخلق الانسان الاشتراكي الجديد , ويبدو أن الفرصة قد ضاعت على هذه الثورات رغم القوة التي بلغتها بعض البلدان , لكنها كانت قوة مادية لم تصمد أمام المنافسة مع الاخرين ,ولم تصمد للزمن , لانها لم تكون الانسان, والمجتمع الاشتراكي , ولذلك سرعان ما تحول هذا الانسان الى الفكر المعاكس.
وكما كان النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي يعاني من مشكلات مجتمعية وسياسية , وفي مقدمتها الاقتصادية التي أثرت على مستوى معيشة الافراد , وبمعنى أدق على رفاهيتهم , فان النظام الرأسمالي يعاني من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية ذاتها , فقد انتشرت الجريمة وتعاطي المخدرات , فانتشرت الامراض والاوبئة مثل الايدز والسرطان والزهايمر وغيرها , وان كانت بنسب أقل حدة. ولكن الامر الاهم أن الشيوعية والماركسية أخذت تتراجع عن شعاراتها فيما يخص الدين وأهميته ودوره في المجتمع , ولا سيما موقف الاحزاب الشيوعية في بلدان أوروبا الغربية.وتبين أن الفصل بين العقيدة الدينية والعقيدة القومية , كان فصلا مفتعلا ,اقتضتها ضرورات المرحلة التي حكمت فيها الاحزاب الشيوعية عدة بلدان فالوقوف ضد الاديان أفقدها الكثير من الرصيد الجماهيري , وألب عليها القوى الدينية السياسية التي لاقت استجابة من عامة الناس , ولاسيما في بلدان عالم الجنوب.
شهدت بلداننا العربية اشكالا من النظم السياسية , وقد جربت معظم التيارات حظها في الحكم , ولكنها لم تتمكن من بناء نموذج متميز , يمكن أن يقتدى به , فقد فشلت التجربة الشيوعية في اليمن الجنوبي , كما فشلت تجربة الحكم الاسلامي في السودان وفي أفغانستان , كما ان تجربة الاحزاب الدينية الطائفية في العراق لم تجلب الى العراقيين غير الشقاء والفقر والقتل والتهجير , وهاهي تجربة ايران تترنح بين التيار الاصلاحي , والتيار اليميني المتشدد , كما ان الصومال يعاني من الفقر والتمزق تحت ظل حراب الجماعات الاسلامية المتطرفة , لقد بات واضحا ان هذه القوى التي لبست ثوب الدين لا تملك الحل لكل المشكلات التي يعاني منها ابناء الشعب.
الجماعات الاسلامية تنهض من جديد مستغلة الحراك الشبابي في عدد من الاقطار العربية , وها هي تفوز في الانتخابات التشريعية في تونس ومصر والمغرب , ولها دور مميز في ليبيا ,. وتظهر مرونة في تعاملها مع دول الغرب الاستعمارية , وحتى مع الكيان الصهيوني , ومستقبل قضية فلسطين. وفي ضؤ هذا الواقع تبدي القوى والتيارات السياسية اليسارية والقومية تخوفا من طموح الاحزاب الاسلامية التفرد بالحكم في بلدان الثورات. لماذا هذا التخوف؟ هل تخاف هذه القوى من الاقصاء والتفرد بالسلطة؟ الخوف من التطرف في معاملة القوى الدينية الاخرى , الامر الذي يؤدي الى احتراب ديني او احتراب طائفي.
أما التيار القومي فليس أحسن حظا من التيارات الاخرى ,فقد حصل انقلاب رجعي على نظام جمال عبد الناصر , ضيع دور مصر القيادي , وهدر طاقات مصر البشرية والاقتصادية , ولا أحد يراهن على مستقبل مصر القومي بعد الثورة ,أما تجربة البعث في العراق فقد أجهضت بمؤامرة غربية ـ صهيونية , انتهت بغزو العراق واحتلاله , وهاهو العراق يعيش تحت حكم القوى الطائفية. أما سوريا فها هو الاحتراب يقترب من الحرب الاهلية الطائفية , اذ هناك العديد من الدول تغذي هذه الروح الاحترابية الطائفية وتصب الزيت على النار. وتسعى القوى الطائفية الى شيطنة البعث , والطعن بالفكر القومي العربي , والصاق التهمة به , كونه حزب عنصري , على غرار القوميات الغربية التي احتربت سنوات طويلة في اوروبا.
هل انتهى التيار القومي ومعه فكره القومي التحرري الوحدوي؟ , ربما يرى البعض أن الفكر القومي قد انتهى بأنتهاء الانظمة التي مثلته , ولكني أقول من تجارب الماضي القريب , ان الفكر القومي باقي في ضمير ووجدان الانسان العربي. ومن المستحيل أن يتخلى هذا الانسان عن طموحه في تحقيق الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية. وفي ضؤ هذه الحقيقة التي قد يقرها البعض وينكرها البعض الاخر ,ما هو المطلوب من المنتمين الى التيار القومي؟. أليس من الواجب أن تتم مراجعة المسيرة الماضية؟ أليس من الواجب تشخيص السلبيات؟ واعادة ترتيب الاولويات الوطنية والقومية , واعادة تقويم القوى السياسية التي تعمل على الساحة العربية؟. مع من يمكن ان تعمل الاحزاب القومية؟ ان المعيار الاساسي هو موقف الاحزاب والقوى السياسية من المقاومة العراقية ضد الاحتلال الامريكي واعونه الطائفيين المرتبطين مع نظام الملالي في ايران , ومن ثم موقفها من قضية الصراع العربي ـ الصهيوني , ومن الاحتلالات الاخرى في الوطن العربي , والموقف من فكرة الشرق الاوسط الذي تغذيها الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. الامر قاطع وبين , فمن لا يدعم المقاومة العراقية في سعيها الى تحرير العراق من الغزو الفكري والعسكري والاقتصادي الليبرالي والطائفي , فمن غير الممكن التلاقي معه , لان موقفه يخدم القوى المعادية في تشتيت الاوطان وتشتيت الامة على اسس عرقية ودينية وطائفية.
ان الحقيقة الساطعة هي , أن القومية العربية التي يؤمن بها البعث , ومعظم القوميين هي الترابط العضوي بين العروبة والاسلام , رغم كل الجهد الذي بذلته القوى المعادية لدق اسفين بينهما. هذه الحقيقة أقرها الاسلاميون المعتدلون والقوميون في أكثر من لقاء ومؤتمر خلال السنوات الماضية. والخوف آت من اصابة الاسلاميين بالغرور , كونهم يشعرون بقوتهم في الشارع , واعتقادهم أن من حقهم الانفراد بالسلطة.
السلطة هي سلطة الشعب , ولذلك لم يعد من المنطق أن ينفرد حزب أو تيار بالسلطة بعد هذه التجارب , وأي تفرد في السلطة سيقود الى الاحتراب والاقتتال بين أفراد الشعب الواحد. فهل تتقدم الاحزاب كلها ومن كل التيارات الى مراجعة المسيرة الماضية , والنظر الى المستقبل بافق ايجابي أخذين بعين الاعتبار مصالح ابناء الشعب قبل مصالح الافراد والاحزاب , وأخذين بالاعتبار المبادئ الانف ذكرها؟
شبكة البصرة