لا شيء يفجع الوجدان أكثر من محاولات بعض مثقفي الأمة العرب اختزال الأمور بصورة تجعل مناقشة قضايا الأمة العربية الكبرى كأنها تجري تحت عباءة أو في الظل الحالك السواد. وهكذا، ففي أيام متقاربة واجهت موقفين يجسدان مثل تلك الفواجع.
في الموقف الأول أصر أحدهم على أن مأساة هذه الأمة هي في مجتمعاتها المتخلفة وأنه آن الأوان أن نتوقف عن اللوم الدائم لسلطات الدول، إذ كيفما تكونوا يول عليكم. كذا في لحظة غفوة للضمير أو العقل نسي المتحدث تاريخ الاستبداد عبر القرون وما فعله ذلك الاستبداد من بطش وترويع وشراء ذمم وإفساد وتجهيل وغواية وتعويد الطاعة لأناس المجتمعات العربية، فأحالها إلى مجتمعات عاجزة مغلوبة على أمرها وانتهازية تعتمد على سلطة الحكم لإطعامها وإبقائها حية راضية بعيش الخراف في مراعي الدولة الريعية.
نسي متحدثي أنه بعد الاستقلال عقدت الآمال على سلطات الدولة العربية الوطنية في أن تقود مجتمعاتها المتخلفة الخارجة توها من حكم الاستعمار نحو التقدم والنهوض. لكن حصيلة عقود طويلة من الحكم الوطني هي ما نراه اليوم أمامنا: أمة مجزأة تنخر أجزاءها القطرية ديدان الصراعات المذهبية والقبلية والعائلية والعرقية، تنمية اقتصادية تابعة مشوهة غير إنتاجية وغير معرفية، فساد مالي وسياسي وإداري، غياب للكثير من مقومات الديموقراطية وحقوق الإنسان، توزيع جائر لثروات الوطن المادية والسياسية والرمزية. فهل حقا أننا يجب أن نتوقف عن لوم الدولة المسؤولة عن كل ذلك وأكثر من ذلك وأن نتجه إلى المجتمع لنلومه على وجود الأمية والفقر المدقع والتنمية المشوهة والتخلف الثقافي والابتذال الإعلامي وحكم الأقليات ورجوع الاستعمار؟ ألسنا هنا نصرخ في وجه الحصان المنهك المضرج بدمه ونتناسى اليد التي تحمل السوط والكرباج؟
إذا كنا نريد أن نناقش تحت ضوء الشمس فعلينا عندما نعدد منجزات الدولة العربية، وهي بلا شك موجودة ومعترف بها، ألا نغفل ذكر سقوطها المذهل في بناء مجتمعات حيوية وقادرة على العطاء ومساعدة النفس والتصرف باستقلال ومن دون وصاية.
الموقف الثاني كان في شكل استماع لمناقشات عن أهمية تشكيل الوعي السياسي للانتقال نحو الديموقراطية. لقد كان قائد المناقشة مبدعاً وعميقاً وشاملاً في عرضه النظري المتميز بشأن متطلبات ووسائل البناء الديموقراطي المطلوب، وكانت إشاراته إلى تجارب الأمم الأخرى في حقل التحولات الديموقراطية بالغة الدقة والأهمية.
لكن المستمع ظل ينتظر الإجابة عن سؤال محوري بالنسبة إلى الموضوع المطروح، والسؤال هو: هل بنية وتركيبة الأنظمة السياسية العربية عبر الوطن العربي كله ستسمحان ببناء ذلك الوعي السياسي الديموقراطي أم أنهما بطبيعتهما ستكونان حاجزاً يمنع بناء المتطلبات الضرورية لانتقال المجتمعات العربية نحو الديموقراطية بعيداً عن المماحكات السياسية وسوء الفهم في أرض العرب المنكوبة بألف علة وعلة؟ ذاك السؤال هو في قلب تلك المناقشات، ولكنه لا يطرح ويترك في الظل المعتم.
ان تكون الوعي السياسي الوطني الجامع للمواطنين احتكم في المجتمعات الديموقراطية العريقة إلى مرجعية فكرية سياسية وإلى ميزان حكمي معقول يتمثلان في مبدأ المواطنة. ومبدأ المواطنة يستدعي تساوي الناس أمام القانون وتساوي الفرص الحياتية الممنوحة لهم في التعليم والصحة والإسكان والعمل والمكانة الاجتماعية، ويستدعي بالتالي وجود مستوى معقول من العدالة في المجتمع. وهو مبدأ لا قيمة له إلا إذا طبق في الواقع وأحس بوهج وجوده الجميع، فهل استطاع النظام السياسي العربي الرسمي بناء تلك المرجعية، مرجعية المواطنة المطبقة، حتى ينطلق الوعي السياسي منها؟
ثم هل يمكن الحديث عن المواطنة من دون أن يسبقه توافق مجتمعي حول أسس شرعية الحكم وحول دستور ينبثق من إرادة الناس وحول الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ستحكم حياة بشر المجتمع ومؤسساته؟ من هنا فان أي حديث عن الانتقال إلى النظام الديموقراطي لا يلازمه حديث صريح وموضوعي عن عوائق ذلك الانتقال سيكون حديثا نظريا ويدور حول نفسه في خطاب الينبغيات والأحلام. لكن هذه البديهة يتجنب مواجهتها بعض المثقفين العرب حتى لا يحرجوا أنفسهم مع هذه الجهة أو تلك.
لقد كان الكاتب الأمريكي هنري ثورو يقول إن قول الحقيقة يحتاج إلى اثنين: أحدهما يتكلم والثاني يستمع. فإذا كان المثقفون العرب يودون أن يستمع الناس لما يقولون فعليهم قول الحقيقة كاملة، بحلاوتها ومرارتها، بضحاياها وبجلاديها. ومنذ قرون نصح الفيلسوف اليوناني أرسطو الكتاب بأن يتحدثوا كما يتحدث الناس العاديون، فهلا نزل أولئك المثقفون العرب من أبراجهم الهادئة المسترخية إلى أماكن صخب الناس ليعرفوا ماذا يقول هؤلاء الناس؟ إنهم يقولون إنهم، كما كل البشر، يريدون التقدم وتحسن الأحوال والسلام الاجتماعي وسمو الحياة، ولكن هناك من يمنعهم أو يضن عليهم. مسؤولية المثقف العربي أن يكشف النقاب عمن يمنعون أو يضنون لا أن يخفيهم تحت العباءة أو في الظل الحالك السواد، ثم يوجه الاتهام للمحرومين والمهمشين كجزء من موضوعية عوراء.