د. يوسف مكي
تحركات متسارعة ومكثفة على أكثر من جبهة، وتصريحات عديدة لمسؤولين دوليين وإقليميين، تشير في جملتها إلى أن المنطقة، على أبواب مرحلة جديدة، وأن مرحلة الصراعات والفوضى التي عمت المشرق العربي، في السنوات الأربع الماضية، قد استنفذت غاياتها، وأننا نتجه جديا نحن مرحلة التسويات.
في العاصمة العمانية مسقط، جرت مباحثات أمريكية- إيرانية، حول ملف إيران النووي، وتحدث الإيرانيون عن توقعاتهم رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهم من قبل المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. والتصريحات حول التقدم في المفاوضات، تبدو شحيحة جدا ومتضاربة.
وفي موسكو، استقبل نائب وزير الخارجية الروسي لشؤون الشرق الأوسط، غينادي غاتيلوف، رئيس الإئتلاف السوري سابقا الشيخ معاد الخطيب. وذكر أن محادثاتهما قد ركزت على الخروج من الأزمة السورية بحل سياسي. وأن الفريقين قد أكدا تصميمهما على العمل من أجل هذا الحل.
وفي سياق التحرك الدولي للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية اقترح المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا- إقامة "مناطق مجمدة"، يتم فيها تعليق السلاح، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، وأن تكون حلب هي المحطة الأولى في خطة تجميد السلاح.
من جانب آخر، كشف مسؤولون أمريكيون عن أن النزاع في سوريا اجتذب عدد أكبر من "المجاهدين الأجانب"، أكثر مما حدث في كل الصراعات السابقة. كما كشف وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هايغل أن السلطات السورية قد تستفيد من الهجمات التي تشنها الولايات المتحدة على مقاتلي داعش. وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن هايغل وجه رسالة إلى البيت الأبيض، انتقد فيها الاستراتيجية الأمريكية في سوريا، وطالب واشنطون بالكشف عن نياتها إزاء النظام السوري. من جانب آخر، أكد المندوب الروسي في الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، أن موسكو مستعدة للعب دور نشط في تسوية الأزمة السورية.
وفي تطور آخر يبدو متناقضا تماما مع هذه التطورات، صرح الرئيس الأمريكي باراك اوباما صعوبة القضاء على الإرهاب من غير إزاحة الرئيس السوري بشار الأسد عن سدة الحكم، وأبلغ أنه شكل لجنة رئاسية لمناقشة هذا الأمر، وأنه في انتظار توصياتها.
نحاول في هذه الورقة أن نحلل وأن نستكشف الأسباب التي أدت إلى جملة هذه الأحداث، وأن نضعها في سياق الصراع الدولي والتنافس الإقليمي.
لا شك أن أهم ملفين ساخنين الآن بالمنطقة بالنسبة للإدارة الأمريكية هما الملف النووي الإيراني والأزمة السورية. إن اهميتهما تكمن في علاقتهما المباشرة بأمن إسرائيل والاستقرار في الخليج العربي، وتهديدهما للسلم في عموم المنطقة. لكن الحروب لا تخاض دائما بالقوة المسلحة. فهناك مصطلحات كالحرب الناعمة وسياسة الاحتواء يمكن ان تحل محل المواجهة المسلحة.
إيران كانت دائما منطقة عازلة بين الدب القطبي والمياه الدافئة بالخليج. وقد تضاعفت أهميتها أثناء الحرب الباردة. لكن الثورة الإيرانية نقلت تحالفات إيران الاستراتيجية من الغرب إلى الشرق، ومن التحالف مع الأنظمة المعتدلة صديقة الغرب إلى الأنظمة الثورية. وتزامن ذلك مع شيخوخة النظام الشيوعي، ثم انهياره لاحقا مع مطالع التسعينيات من القرن المنصرم.
لقد اضعف سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة أهمية موقع إيران. ولذلك لم تعد الولايات المتحدة معنية بالصداقة معها. إلا أن عودة المارد الروسي بقوة للمسرح الدولي، خلق حقائق جديدة، جعلت إدارة أوباما تعيد النظر في سياساتها تجاه إيران. إنها تريد صداقة نظامها، لتكون إيران مجددا منطقة عازلة مع العدو اللدود، الجديد روسيا الاتحادية. أما الملف الإيراني فيمكن التعامل معه بشكل سلمي في ظل مناخات الصداقة وعلاقات الود المتبادلة.
إن هذا السلوك يعيد إلى الذاكرة صورة التحرك الأمريكي تجاه الصين الشعبية في عهد الرئيس الأمريكي رتشارد نيكسون في نهاية الستينيات من القرن الماضي.
من وجهة نظرنا فإن السعي الأمريكي هذا لن يكون سهلا. ومقاربة ما يجري حاليا من قبل عدد من المحللين السياسيين في الغرب ليست موفقة. فأمريكا لم تشعل الصراع بين الصين الشعبية والاتحاد السوفياتي، بل قامت بتسعيره، في حين لا توجد حتى هذه اللحظة احتمالات تسعير الصراع بين روسيا وإيران. إن إيران في صراعها مع أمريكا هي أحوج ما تكون إلى علاقة إيجابية مع روسيا. وتدرك إيران ذلك وتخشى من سياسة الاحتواء.
في الأزمة السورية، هناك حقائق عدة تجعل المنهمكون في الصراع داخل سوريا يدركون أن لا أحد منهم قادر على حسم الصراع لصالحة. فلا المعارضة قادرة على تنفيذ برنامجها، ولا الحكومة السورية، قادرة على قهر المعارضة. وكما يقول الشيخ معاد الخطيب، لقد دمرنا الجيش العربي السوري الذي بنيناه من قوت أطفالنا، وتضعضعت مؤسسات دولة كانت عنوان السيادة والاستقلال لبلادنا، ولم يستطع أين منا أن يقهر الآخر. والنتيجة أن قوى الإرهاب، من داعش وأخواتها تمكنت من استغلال ضعف المعارضة وغدت تشكل تهديدا حقيقا لهما، ولذلك لا بديل عن مصالحة تاريخية تحافظ على البقية الباقية من الهوية والمشاعر الجمعية وتعيد الاعتبار للوطن وتمنع تمزقه.
إن هناك معلومات مؤكدة أن تحرك الخطيب ليس معزولا عن رغبة دولية في ايجاد حل سياسي للأزمة السورية. وهناك من يرى في تصريحات باراك اوباما عن إسقاط الأسد، محاولة للضغط على النظام السوري. لتقديم تنازلات مؤلمة لصالح التسوية السياسية. إنه يأتي منسجم مع تحرك المبعوث الأممي واقتراحه تجميد السلاح في حلب، في إطار التوطئة للحل السلمي.
الأيام القادمة ستكون حبلى بالكثير من المفاجئات، وليس علينا سوى الانتظار.